أما بعد: فيا عباد الله، ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي وهو في قبته يوم بدر: ((اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبَد بعد اليوم)) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على الله، فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ [القمر:45، 46][1]، صدق الرسول الكريم .
تذكّروا ـ يا عباد الله ـ أنّ الهزائم لا تنزل على المؤمنين الصادقين، إنما تنزل على المعاندين المكابرين، تنزل على المنافقين الذين يحاربون الله تبارك وتعالى.
وتذكّروا أن أمة الإسلام لا ترفع إلا راية واحدة كتب عليها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". مهما تغيرت الأحداث قبل المعركة وبعد المعركة، الثبات على المبدأ مهما تغيرت الأحداث.
وتذكّروا كذلك أن أحوالنا في هذه الأيام لا ترضي الله ولا ترضي رسول الله، نكاد لا نصدق أن هذه أمة محمد . أهذه أمة التوحيد؟! أهذه أمة الإسلام؟!
أيّها المؤمنون، الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه استعدّ لدخول المعركة يوم أحد، توجّه إلى ميدان القتال، ولقي الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسأله: إلى أين يا أنس؟ قال له: (إني متوجّه إلى أُحد، إنّني أجد ريحَ الجنة دون أحد)[2].
هذه كلمات صدرت من قلب عامر بحب الله، من قلب عرف الله، فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]. إلى أين يا أنس؟ إلى أحد، إني أجد ريح الجنة دون أُحد.
هذه نفوس كانت تحمل قلوباً مطمئنة، قلوباً صادقة، إن الله علّمهم أن يكونوا أكبر من الأحداث مهما احتدمت الخطوب، ومهما ادلهمّت المصائب والشدائد، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [آل عمران:140-142].
علّمهم الله تبارك وتعالى أن يكونوا أكبر من شدائد الأيام.
إن رسالة الإسلام ليست كلاماً، إن رسالة الإسلام تربية وتركيز وتوجيه، وكيف نربي الرجال إذا غفلنا عن تربية القلوب وبناء النفوس؟! لكي نخوض المعركة لا بد أن نبني القلوب. اسمعوا ماذا قال أنس بن النضر رضي الله عنه، أنس الذي جثا التاريخ على ركبتيه وتمرغت الدنيا تحت قدميه: (إني أجد ريح الجنة دون أحد). قد نزل إلى المعركة وقاتل قتال الأبطال وقتِل شهيداً، وجاء الناس ليتعرّفوا على جثمانه، فلم يستطيعوا أن يتبيّنوه، لقد ضرب أكثر من ثمانين ضربة، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح، تغيّرت معالم الشهيد من شدّة ما أصيب من ضربات، وقَلّما طعن بسهم، كان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
إن هذه الضربات مهما قست، فإنها تنزل على جسم الشهيد كأنها قبلات، لا يشعر منها بألم، إنها تتحوّل إلى برد وسلام.
وجيء بأخت الشهيد لتتعرّف على أخيها، وأخذت تنظر إلى الجثمان الشريف، ولم تستطع أن تعرفه إلا بأصابع يديه.
قالت: إنه أخي، ماذا جرى عندما شيّع جثمان الشهيد؟ إن الذي شيّع جثمانه هم ملائكة الله تبارك وتعالى، فعزّى الله تبارك وتعالى المؤمنين، وحمل العزاء إليهم روح القدس جبريل، وأشاعه نبينا الكريم ، اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى عزاء الإله القادر للمؤمنين بأنس بن النضر قال الله تبارك وتعالى: مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
إننا في حاجة إلى رجال يعرفون الله، إن صلاح الدين الأيوبي عندما خاض المعركة ضد جيوش أوروبا كان يقوم قبل الفجر، كان يصلي قبل الفجر، ويدعو الله أن ينصره على أعدائه، وكان يقول: استعينوا بدعاء السحر على أعداء الله.
جلس ذات مرة بين إخوانه حين كان المسجد الأقصى بيد الصليبيين، جلس صامتاً فقالوا له: لم لا تبتسم يا صلاح الدين؟ فقال: أخشى أن يراني الله مبتسماً، والمسجد الأقصى في يد الصليبيين.
عباد الله، إن أعداء الإسلام يعملون للخراب والتدمير، أما أمة الإسلام فهم يعملون للبناء والتعمير، أصحاب رسول الله لم يتخبطوا في دياجير الظلام، إنهم ساروا على نهج الواحد العلام.
اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب ويا هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين، اللهم أنزل جام غضبك وسخطك عليهم، فإنهم قد طغوا وأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم من عندك سوط عذاب.
اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، واجعل نار قذائفهم ترتد عليهم، واجعلها برداً وسلاماً على إخواننا في أرض العراق يا رب العالمين.
اللهم شُدّ من أزر إخواننا في أرض العراق، وزلزل الأرض من تحت أقدام عدوهم.
عباد الله، توجّهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب صادقة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم (2915).
[2] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2806)، ومسلم في الإمارة (1903).
|