أما بعد: إن يوم القيامة يوم شديد، مليء بالكُرَب والأهوال، كُرَبٌ ستشيب منها الولدان، ويفر المرء فيها من الأهل والخُّلان.
فمن الكُرب التي سيواجِهُها الناسُ يوم القيامة؛ كَرْب الإغْراقِ بالعرق؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس يحشرون يوم القيامة ((حفاة عراة غرلا ـ أي غير مختونين ـ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))؛ وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تلا رسول الله الآية: يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [المطففين:6]، فقال رسول الله : ((كيف إذا جمعكم الله كما يُجمَع النَّبْلُ من الكِنانة خمسين ألف سنة ثم لا ينظر إليكم)) رواه الحاكم. والذي سيزيد هذا الكَرب شدة: هو الوقوف والانتظار تحت لهيب شمسٍ؛ ستقترب من الرؤوس بمقدار ميل، حتى يغرق الناس بعرقهم؛ والعياذ بالله من ذلك الحال والمقام. فقد روى المِقْداد بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق؛ حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قَدْر أعمالهم في العَرق، فمنهم من يكونُ إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقويه، ومنهم من يُلجِمُه العرق إلجامًا))، وأشار رسول الله بيده إلى فِيه. رواه الإمام مسلم.
ويزداد كَرْب الناس وضَنْكُهم بالعَرق ما لا يطيقون، إذ يغوصُ عَرقُهم في الأرض سبعين ذراعًا ثم يرتفع فيَصلُ عند بعضهم حتى رؤوسهم؛ فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهبَ عرقهم إلى الأرض سبعين ذراعًا ويُلجِمُهم حتى يبلغ آذانهم)) رواه البخاري.
فماذا أعددنا لذلك الكَرب الشديد من عمل؟! إن الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس ويتذمرون منها؛ فتراهم يهربون من وهْجها وحرارتها إلى أماكن الظل؛ سواء أكانت تلك الأماكن: تحت مِظلة أو شجرة أو سيارة، وقد يبقون في البيت أو يسيحون في بلاد باردة.
وإنك تسمع الناس، يوصي بعضهم بعضًا، بعدم المشي في الشمس لكيلا يتعرضَ الواحد منهم لضربة شمس تُخِلُّ بدماغه؛ بل ويُوصَى دوليًا وعلى مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان؛ بمنع تشغيل العمال ميدانيًا؛ إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظًا على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة والملتهبة صيفًا. ونسي أولئك الناس أن هذه الشمس التي يهربون منها، أنهم ملاقوها يوم القيامة بأشدّ وأقرب ما يكون؟! ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة، نعم لخمسين ألف سنة حتى إنه رُوي أن الناس في ذلك اليوم؛ يتمنون لو بدئ بالحساب ليستريحوا من هَمِِّ ما هُمْ فيه، ولو ذُهِبَ بهم إلى النار؛ عياذًا بالله من ذلك المقام.
فماذا أعددنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟! إن الناس اليوم يحرصون على وضع عوازلَ حراريةٍ في بيوتهم لِتَقِيهم حرَّ شمسِ الظهيرة؛ لِيَنْعُموا بجوّ بارد منعِش طوال يومهم؛ وإن الواحد منّا إذا قرّر بناء منزل تراه يبحث عن أفضلِ وأجودِ العوازلِ الحراريةِ التي توضع في الجدران، والتي توضع على الأسطح، ولو كلّفه ذلك عشراتِ الآلاف من الريالات؛ وفوق ذلك كله تراه يضع المُكيِّفات المركزية في كل البيت؛ ليعيش في جو بارد وهادئ؛ لا يعرف فيه الحرارة؛ كل ذلك من أجل أن يتقي حَرّ شمسٍ تبعُد عنا مسافة تُقدَّر بحوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل، ولا تستغرقُ ذروةُ أشعتِها أكثر من ثمانِ ساعات يوميًا على سطح الأرض، خلال فصل الصيف. ولو حسب إجمالي هذه المدة متوسط بعمر الإنسان نجد أنها لا تزيد على ثمانِ سنوات متواصلة. ومع ذلك يدفع الإنسان مبالغَ طائلة؛ تصل إلى عشرات الآلاف؛ ليتقي حر هذه الشمس.
وها هو رسولنا يخبرنا ـ وهو الصادق المصدوق ـ أننا سنحشر يوم القيامة ليوم مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعة شمسٍ حارقةٍ لا تغْرُب أبدًا؛ فماذا أعددنا لذلك اليوم من عوازل؟ ألا يجدرُ بنا أن نسأل عن عوازلَ تقينا شمسَ الآخرة! وما هي العوازل التي يمكنها مقاومة حرارة تلك الشمس يا ترى؛ التي ستقترب منا بمقدار ميل؟! والميل الشرعي يُقدّر بحوالي أربعة آلاف ذراعًا. وهل يمكن أن ننقل معنا العوازل الحرارية التي صنعناها في دنيانا؟! هل سألت أخي المصلي عن الأعمال والعوازل؛ التي تنجّي صاحبَها من حر شمس يوم القيامة، وتحفظه في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟
إنها عوازلُ أخبر بها رسولنا الكريم ليست من البرولايت ولا من الفلِّين؛ وإنما هي أعمالٌ صالحة أُمِرْنا بالتحلّي بها لنستظلّ بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب؛ ومن استظل تحت ظل العرش، سيمر عليه يوم القيامة كقَدْرِ الانتظار ما بين الظهر والعصر. فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا قال: ((يوم القيامة على المؤمنين كقدْر ما بين الظهر والعصر)).
أيها الأخوة الحضور، إذا كنتم تسألون عن أفضل العوازلِ الحرارية لبيوتكم، فإني سأنبئكم عن أفضل عوازل حراريةٍ ضد شمس يوم القيامة. سأذكر لكم طرفًا من الأعمال الموجبة لظل عرش الرحمن لعلنا نسارع إليها بعد أن أدركْنا وتصورْنا وآمنا بأهميتها يوم القيامة.
العازل الأول: إنظارُ المعسِر حتى يسدد دينه أو تخفف الدين عنه؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة، تحت ظل عرشه، يومُ لا ظلَّ إلا ظلُّه)) رواه الإمام أحمد، والترمذي. وفي رواية أن رسول الله قال: ((إن أول من يستظلُّ في ظل الله يوم القيامة لرَجُلُ أنظر معسرًا أو تصدق عنه)) رواه الطبراني بإسناد حسن. وروى أبو قتادة أن رسول الله قال: ((مَنْ نَفَّسَ عن غزيمه أو مَحَا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة)) رواه الإمام مسلم، وأحمد.
العازل الثاني: الجهاد في سبيل الله بالمال؛ فقد روى سَهل بن حُنَيف عن أبيه أن رسول الله قال: ((من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عُسْرَتِه، أو مكاتَبًا في رَقَبَتِه، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)) رواه أحمد، والحاكم.
العازل الثالث: التحاب في الله عز وجل وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي، اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه الإمام مسلم، وأحمد. وروى معاذ بن جبل أن رسول الله قال: ((المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يومَ لا ظلَّ إلا ظله)) رواه أحمد، والطبراني.
العازل الرابع: حفظُ سورتي البقرة وآل عمران؛ فقد روى بُرَيْدَة الأسْلَمي أن رسول الله قال: ((تعلموا البقرةَ وآلَ عمران فإنهما الزَّهْراوان يُظلاّن صاحبَهما يوم القيامة كأنهما غَمامَتان أو غَيايَتان أو فِرقان من طيرٍ صوافَّ)) رواه الإمام أحمد. وروى النواس بن سمعان أن رسول الله قال: ((يأتي القرآنُ و أهلهُ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران يأتيان كأنهما غَيابتَان وبينهما شَرْقُ أو كأنهما غَمامَتان سَوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طَيرٍ صَوَافَّ يجادلان عن صاحبهما)) رواه الأمام مسلم، وأحمد، والترمذي. فاحفظ ـ أخي المصلي ـ هاتين السورتين بدلاً من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقًا وفسقًا وبعدًا عن الله.
العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد روى عُقْبَة بن عامر أن رسول الله قال: ((الرجل في ظل صدقته حتى يُقْضَى بين الناس)) رواه أحمد، وابن خزيمة. وفي رواية قال : ((كلُّ امرئ في ظلّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناس)). فَحَرِيٌّ بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يومٍ؛ شديدٌ كرُبه؛ يغرق فيه الناسُ في عَرقهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
|