أما بعد: أيها المسلمون، كلما أراد الخطيب أن يتحدث عن موضوع آخر غير موضوع العراق، يجد نفسه مضطرًا للرجوع مرة أخرى، وذلك لأن كل يوم تتكشف أشياء، وكل ساعة تتبين حقائق كانت خافية، ولا تزال عدد من القضايا الأساسية تحتاج إلى توضيح وتبيين للناس، من ذلك:
أن أمريكا هي التي وقفت بكل ثقلها وراء نظام البعث، فهم الذين دفعوه إلى إعلان الحرب على إيران، وهم الذين زودوه بالسلاح الكيماوي الذي حسم به الحرب، وأرغم الإيرانيين على الصلح. وهم الذين أغروه بفعلته الحمقاء، عندما غزا الكويت في تصرف عنتري بائس، يفتقر إلى أبسط معاني الإحساس بالمسؤولية، ثم وقفت القوات الأمريكية على حدود الكويت، رافضة أن تُنـزل به العقاب، رغم أن العالم كله كان معها آنذاك.
كما أن التاريخ الحي سجل لنا أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا، هم من تستروا على إجرام صدام ودمويته، وقمعه الرهيب لشعبه، بما في ذلك استعماله أسلحة دمار شامل ضد شعبه، والقصص في هذا الشأن سارت بها الركبان، فلم يعرف العرب في تاريخهم الحديث، حاكمًا في دموية وإجرام صدام وعصابة البعث.
لكن يجب أن يُعلم الآن، بأن الكلام في هذه الفترة عن حزب البعث، والاسترسال في تعداد جرائمه، لا يغني شيئًا، فقد أصبح اليوم نسيًا منسيًا، ولنترك هذا العمل الصغير للمتأمركين العرب، مثقفين وكُتَّابًا، الذين لم يُبدوا أي امتعاضٍ لاحتلال قوات التحالف أرضَ العراق، ولم تؤثر فيهم صور المأساة هناك.
فالذي يجدي الآن، ويتعين علينا، هو التوجه إلى تعرية التحالف الصليبي، والحديث عن أمريكا الطاغية وفضحِ مخططاتها، وكشف جرائمها، حتى تظهر للناس في صورتها الحقيقية.
والإسهام في هذا لا يختص بالمثقفين ولا المفكرين ولا العلماء، إنه الإسهامُ من الجميع، فمثلاً: في استطاعة الشاب الصغير ـ في المرحلة المتوسطة، الذي لا يحسن قراءة الأحداث ولا متابعتها، باستطاعته ـ أن يتعرف على جرائم أمريكا وحلفائها من خلال آثار الدمار والقتل والنهب الذي خلفته حرب التحرير الموهوم. ولن يعجَزَ مثل هذا الشاب ـ ذي القدرات البسيطة ـ أن يجمعَ صورها، ويجعلها وثائق يحتفظ بها في مكتبته الصغيرة، لإدانة سياسة أمريكا، وتحرك كراهيته لها كلما سكنت، وتذكيره بجرائمها كلما نسيها.
أيها المسلمون، إن المحنة الكبرى ليست في سقوط بغداد، وإن كان سقوطها أمرًا يجعل المسلم الحقيقي يبكي دمًا بدل الدموع، لكن مصيبتنا الكبرى الآن، وبعد سقوطها، هو الاحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين، وعودة العهود الاستعمارية المظلمة، وأن يكون الحاكم والآمر والناهي على المسلمين وفي بلادهم رجل أجنبي كافر. وإذا كان الواقع كذلك، فإن من الأمر العجَبِ أن تخفُتَ أصواتُنا في الدعاء على التحالف الصليبي، وأن يفتُر تأميننا عليه، وكأن المسألة قد حُسمتْ وانتهتْ في أول مراحلها.
فينبغي أن نعي أن الحرب لا يلزم أن تقع في صور متشابهة، يحويها أسلوب واحد، إن صورة الحرب على كل بلد تتشكل بما يناسبه، فهي على بعض البلاد حربٌ عسكرية، كما فعلت أمريكا في أفغانستان سابقًا، والآن في العراق، وعلى بلد آخر حرب اقتصادية، وعلى آخر حرب سياسية نفسية. ولذا فليس بالضرورة أن تكون المرحلة القادمة، لحرب التحالف الصليبي على الإسلام، كما وقعت في العراق، فواقع العراق فرض الحربَ العسكريةَ، لأجل الإطاحة بنظامٍ مَرَدَ على العصيان، ثم الاستيلاء على حقول النفط.
أما المرحلة التالية فليس التحالف فيما يبدو بحاجة إلى كل هذا، فيكفيه أن يلوِّح بالتهديد بالقوة على باقي الدول، ويمارس ضغوطًا سياسيةً واقتصادية، لفرض الهيمنة والوصاية عليها، ومن ثَمَّ القضاء على كل نظامٍ أو فكرٍ يعزز المدَّ الحركي للإسلام، أو نشاطٍ يهدد أمن إسرائيل. ولذا تستدعي المرحلة القادمة مزيدًا من الحيطة والحذر، والعمل والمقاومة المنضبطة بالحكمة، ومراعاة المصلحة.
أيها المسلمون، إذا كانت الحرب تختلف صورها وتتنوع أساليبها، فإن المقاومةَ هي الأخرى ينبغي أن تختلف صورها، تبعًا لاختلاف أساليب الحرب وصورها. فلكل حربٍ ما يناسبها من صور المقاومة.
إن المقاومة لا تعني بالضرورة المواجهةَ العسكرية لجيش العدو، لأنك أحيانًا قد لا ترى العدو أمامك، وقد لا يكون لك قِبَلٌ به ولا طاقة. فمعنى المقاومة إذن تخرج من مجرد المواجهة، إلى الأخذ بجميع الأسباب، التي تمنع العدو أن يصل إلى أطماعه في بلاد المسلمين، أو يفرض عليهم وصايته.
إن المقاومة تعني في أول ما تعنيه: حياطةَ الدين ومبادئه وقيمِه من كيد الأعداء، أن يبدلوا منه شيئًا، أو يحرِّفوه أو يُقْصوه أو يُحجِّموه. كما تعني حفظَ البلد وثرواته من الاستعمار والنهب والاستيلاء، وهي تفرض على الأمة مزيدًا من التواصي والتعاون على سدِّ كل ثغرةٍ، قد يتسلل من خلالها العدوُ إلى التدخل في شؤون البلاد الداخلية، لتغيير نُظُمِها التي لا تخلو من النظم الشرعية. ومزيدًا من التواصي على تربية المجتمع على عقيدة الإسلام وقيمه، وعلى بنائه فكريًا واقتصاديًا وأمنيًا، ليصبح قادرًا على التمنع والمقاومة.
والمجتمع الذي اعتاد حياة الترف واللعب والكسل والخنوع، لا يقوى على مقاومة إغراء الشهوات والملذات، فكيف بمقاومة عدوٍ يملك أقوى عتاد! ولكن كما أن للحرب سبعين حيلة، فللمقاومة سبعون مثلها. المهم أن نستشعر الخطرَ المحدِقَ بنا، وأن تجتمع كلمتنا وقوتنا، وأن نستنفرَ مجتمعاتِنا وجهودَنا لمقاومته، وأن نوظِّف هذه الكراهية التي نجدها من الناس على أمريكا، في أعمالٍ إيجابية تعزز لمقاومة وتُنوِّع طرقها، وأن نُذكي نارَ الكراهيةِ والبغضاء ضدها، كلما خبت زدناها سعيرًا.
أيها المسلمون، ومما ينبغي أن نعلمه جيدًا، أن حرب التحالف الصليبي على حزب البعث، وإن بدت أنها قد وضعت أوزارها، لكنَّ حربَهم على الإسلام لا تزال قائمةً، يَشُنّونها تحت شعار مكافحة الإرهاب، فهي حرب طويلة لا تنتهي بإسقاط رمزٍ أو دولةٍ، فالإسلام الذي يخشونه ليس حزبًا محدود الأعضاء، ولا نظامًا يحصره بلد، حتى يكون بقاؤه مرهونًا ببقاء رمز أو دولة.
إن الحرب على الإسلام ستطول؛ لأن وجوده متجذِّر في القلوب، ممتد في أقطار الأرض، له سحره الأخّاذ وتأثيره العجيب، تنتمي إليه شعوب كثيرة مختلفة الأعراق واللغات. ولكن السؤال: أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟ هذا السؤال هو أحد الأسئلة المهمة، التي لا ينبغي أن يغيب جوابُها عن الأذهانِ في هذه الأيام. أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟
إنه ولا شك الإسلام الحركي العملي، الذي يحكم الحياة ويصرِّفها، ويهيمن على نظمها، ويحيل العقائد المستكنّة في القلوب، واقعًا ملموسًا في الحياة إنه الإسلام الذي يحرك عقيدة الولاء والبراء في القلوب، لتنطلق منها وشيجة الأخوة الإيمانية بين أتباعه، وتقيمَ بينهم رابطةً أقوى وأسمى من الرابطة القومية والوطنية والعرقية والإقليمية.
إنه الإسلام الذي يُعلِّمُ أهله أن إعداد القوة فريضة، وأنّ مقاومة الاستعمار جهادٌ مقدس، وأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نفاقٌ مخرجٌ من الملة، وصورة من أكبر صور الخيانة للأمة. هذا هو الإسلام الذي يحذره الغرب، وتحاربه أمريكا اليوم.
أما التدين الشخصي الذي لا يحدث في الواقع تغييرًا، ولا يجاوز حدودَ الشعائر التعبُّدية، كالصلاة والصوم والحج، فهم لا يحاربونه إن لم يكونوا يؤيدونه، ويودّون لو لم يفهم المسلمون من الإسلام إلا هذا التدين الشخصي، ونحن لا نشك بأنه تدينٌ واجبٌ ومهمٌ، لكن لا يجوز أن نختصرَ الإسلام فيه.
والذين يقصرون الإسلام على هذه الشعائر التعبدية، هم وحدهم الذين يتوهمون أن أمريكا لا تحارب الإسلام. وليس بمستغرَب عليهم هذا التوهم، ما دام أنهم لم يخرجوا في فهم الإسلام وتطبيقه، عن صورته المختزلة في بعض الطقوس، وهو الإسلام الذي لا تعارضه أمريكا إن لم تكن تؤيده كما ذكرنا، لأنه لا يهدد مصالحها، ولا يقاوم استعمارها.
أيها المسلمون، يأتي في طليعة الدروس المستخلصة من حرب العراق، إدراك أن الشعوب هي التي تحمي وجودها وأوطانها، طالما التحمت مع قضاياها، وكانت الملاحظة المذهلة أن بعض الشباب العراقي، ومعهم شباب إسلامي من بلدان أخرى، هم الذين خاضوا المعارك الكبرى، في أم قصر والبصرة والناصرية وتكريت وغيرها، وكبدوا العدو خسائر فادحة، وأذهلوه ببسالتهم، وأوقفوا تقدمه طوال ثلاثة أسابيع.
بينما جحافل صدام وحرسه الجمهوري، سلموا العاصمة إلى الأمريكيين في يومين اثنين دون قتال، فالذين يَنشؤون على العبودية، لا يصلحون لمعارك التاريخ الكبرى، والذين يدافعون عن شخص، غير الذين يقاتلون عن دين، وهذا درس للشعوب، وللنظم الحاكمة أيضًا، فإن الشعب يكون داعمًا لنظامه السياسي عندما يستشعر أنه يعبر حقيقة عن اختياره وهويته، ويحترم حرياته وكرامته، وعندما يشعر المواطن العادي أنه شريك حقيقي في صناعة مستقبل بلاده.
وأما خرافة أن نظامًا مستبدًا يصنع قوة عسكرية مُهابة، ويؤسس دولة تحمي الوطن وتؤمن مستقبله، فهذه خرافة سقطت مع سقوط أول أصنام صدام في بغداد، ومن توابع هذه الحقيقة ندرك أن العراق والشعب العراقي لم يهزما، وإنما المهزوم هو نظام البعث، الذي سبق له أن أهان العراق وشعبها وهزمهما، وأطاح بكرامة الإنسان العراقي، قبل أن يأتي الأمريكان أو غيرهم.
إن معركة أمريكا لم تكن أبدًا مع الشعب العراقي، وإنما كانت مع نظام فاسد، وعندما تأتي ساعة المواجهة، والمعركة الحقيقية بين الشعب العراقي وأمريكا، سيرى العالم صورة مختلفة تمامًا، ولن تقوى لا أمريكا ولا غيرها على هزيمة إرادة شعب مقاوم، هكذا علمنا التاريخ، وهكذا كان درس أمريكا ذاتها في أكثر من مواجهة على مستوى العالم.
أيها المسلمون، لقد انكشف للعالم أجمع بأن أمريكا لم تأت بجيوشها من أجل تحرير العراق، لأنه أصلاً لم يكن تحت الاحتلال، ولأن العالم كله لم يسمع من قبل بمصطلح تحرير الشعب من حكومته قبل هذه الحرب، ولأنه لم يسبق لأمريكا أن حررت شعبًا يقع تحت ظلم حكومته قبل هذه الحرب، فقد ظلت شعوب أوربا الشرقية نصف قرن ترزح تحت حكم أنظمة شيوعية استبدادية، ولم تفكر أمريكا قط بإرسال جيوشها لتحرير تلك الشعوب الأوربية المسيحية، فكيف تفعل ذلك للشعب العراقي المسلم؟
ففعل أمريكا بانت أهدافه، ووضحت مقاصده، وهذا ليس بغريب أن تفعله أمريكا، لكن الغريب هو أن بعض المشايخ، ممن كنّا نسمع منهم أنهم يحرِّمون على الشعوب الثورة على حكوماتها الاستبدادية، ويقولون بأن هذا محظور في الشريعة الإسلامية، وأن الصبر على الظلم خير من إثارة الفتن وإراقة الدماء، وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فإذا بهم فجأة وبلا سابق إنذار، يُجيزون لبعض فصائل المعارضة العراقية، ليس فقط الثورة على النظام، بل والاستعانة بالجيوش الصليبية لتدمير بلد إسلامي، وقتل الآلاف من أبنائه، واحتلال أرضه بدعوى رفع الظلم عنهم.
إن هذه الفتاوى الجديدة تجعل من خيانة الوطن عملا شريفًا، ومن العمالة للعدو الأجنبي فعلا مشروعًا، وتجعل من أبي رغال قدوة، ومن ابن العلقمي إمامًا، ومن الطوسي حجة، ولم يعد لاستقلال الأوطان في الفتاوى الجديدة حرمة، ولا لسيادة البلدان ذمة!. وبناءً على هذه الفتاوى الجديدة، أصبح من حق كل قوى المعارضة في الخارج، كالمعارضة السورية، والمصرية، والليبية، والجزائرية، وغيرها أن تستعين بالقوى الاستعمارية، وتحثها على غزو بلدانها، واحتلال أوطانها من أجل إسقاط حكوماتها غير الديمقراطية، وإقامة حكومات عميلة تحت حماية الجيوش الغازية.
فهذا حق مشروع بناءً على الفتاوى الجديدة وفتاوى الفقه الوليدة على فراش الزواج الإسلامي البروتستانتي، وفي ظل رعاية عهد الاستعمار الأمريكي الجديد لدول المنطقة.
فهل يعي أولئك الذين تكلموا بهذا الكلام الساقط، في تلك الفترة، خطورة ما تكلموا به. وقد يكونون هم الذين يشعلون فتنًا قد تحدث في بلدان أخرى.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
بارك الله لي ولكم...
|