أما بعد: أيها المسلمون، إن التاريخ هو عنوان الأمم، ولولا التاريخ لم يصل إلينا خبر ولا أثر، إنه غذاء الأرواح، وخزانة أخبار الناس والرجال، يحتاج إليه الملك والوزير والقائد البصير، وغيرهم ممن عز أمرُهم.
أما الملك فيعتبر بما مضى وسقط من الدول، ومن سلف من الأمم، وأما الوزير فيعتبر بفعال من تقدم ممن حاز فضلي السيف والقلم، وأما قائد الجيوش فيطلع به على مكائد الحرب، ومواقف الطعن والضرب.
أيها المسلمون، إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها، ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها، لهي أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس إعادة صياغة الحاضر، ومقولة: أن التاريخ يعيد نفسه ليست خطأ من كل الوجوه، وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال الله تعالى: ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100].
إن سجِلّ التاريخ ما هو إلا المنار، الذي ينبئ الملاحين الجدد، عن الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمون في هذا العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطؤوا في كثير من الأمور. يقول المؤرخ ابن الأثير رحمه الله: "وإنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره، فيزداد الإنسان بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدى به أهلاً".
إليكم بعض عجائب التاريخ فيما يتعلق بأحداث العراق: إن سقوط بغداد على يد هولاكو المغولي، فيه شبه كبير فيما حصل في الأيام الماضية، على يد هولاكو الأمريكي.
تحرك هولاكو المغولي بجيش كبير نحو العراق. وهذا ما فعله هولاكو الأمريكي حيث جمع ما يزيد على ثلاثمائة ألف، وأحاطوا بالعراق من كل جانب.
وصل هولاكو المغولي إلى مقربة من العراق وأقام بها شهرًا، وجه خلالها رسائل للملوك يطلب منهم معاونته في القضاء على الإسماعيلية، وفي مقابل ذلك تعهد لهم بأن يبقيهم على ولايتهم ولا يتعرض لهم بسوء، وهددهم بأن امتناعهم عن مساعدته يجرهم إلى الهلاك.
وهولاكو الأمريكي أيضًا نزل بالدول المجاورة للعراق، وأقام بها شهرًا وهو يستعد لخوض الحرب، وطالب كثيرًا من دول العالم أن تتحالف معه للقضاء على حزب البعث.
استولى هولاكو المغولي على قلاع الإسماعيلية، وأهمها قلعة آلموت الواقعة على بحر قزوين. ولم يكتف بهذه القلاع، بل طلب من زعيم الإسماعيلية تسليم جميع القلاع في بلاد الشام، فاستجاب له، وبعدها رفع الرايات المغولية على كل القلاع الإسماعيلية في الشام.
عندما استولى هولاكو الأمريكي على ميناء أم قصر، بعد مقاومة استمرت أكثر من عشرة أيام، رفعوا مباشرة الأعلام الأمريكية على الميناء، وعلى المناطق التي استولوا عليها في الجنوب في بداية الأمر.
فرح المسلمون بقضاء هولاكو المغولي على الطائفة الإسماعيلية الباطنية الحاقدة على أهل السنة، على الرغم مما كان ينتظرهم من الخطر المغولي الذي كان أشد من خطر الإسماعيلية.
وأيضًا في هذه الحرب فرح بعض المسلمين بقضاء هولاكو الأمريكي على حزب البعث الباطني الحاقد على أهل السنة، على الرغم مما ينتظرهم من الخطر الأمريكي الذي هو أشد من خطر البعث.
بعد القضاء على الإسماعيلية توجه هولاكو المغولي إلى بغداد، ودارت مراسلات بينه وبين المستعصم بالله فترة من الزمن، يطلب منه هولاكو الاستسلام وهو يرفض.
وهنا وبعد القضاء على المقاومة التي كانت في الجنوب، توجه هولاكو الأمريكي إلى بغداد وطلب من رئيسها الاستسلام وهو يرفض.
كان هولاكو المغولي يهاب من غزو بغداد، ويخشى أن يقف العالم الإسلامي وتقف الممالك الإسلامية كلها في وجه الغزو المغولي، وكان يخشى أن يعلن الخليفة العباسي الجهاد في سبيل الله، فيخسر هولاكو المعركة، لذا عمد إلى تمزيق الصف الإسلامي من الداخل، والاستفادة من المنافقين الذين يوالون المغول.
وأيضًا هولاكو الأمريكي حسب لدخول بغداد في أول الأمر ألف حساب، وكان يخشى من حصول أمور لا يتوقعها، إما من داخل العراق أو من خارجها، من مثل دخول الآلاف من المسلمين للعراق، لإعلان الجهاد ضد الغزو الصليبي الأمريكي، لذا عمد إلى تمزيق الصف من الداخل، والاستفادة من المنافقين الذين يوالون الأمريكان.
ممن لعب دورًا كبيرًا في أحداث السقوط الأول نصير الدين الطوسي، وهو مستشار هولاكو المغولي، الذي كان ينتمي إلى الإسماعيلية في قلعة "آلموت" ثمان وعشرين سنة، ثم كشف عن حقيقته، وأنه ينتمي إلى الإمامية الاثني عشرية. وأيضا الوزير ابن العلقمي، والذي دارت بينه وبين هولاكو مراسلات، أدت إلى تخفيف الجيش في بغداد حتى تمكن من الدخول إليها.
وفي هذه الأحداث، الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن بغداد سقطت بقرار، سقطت بقرار ممن كانوا يملكون قرار توجيه وتحريك الحرس الجمهوري وغير الجمهوري. وهو نوع من الخيانة، سهل الأمر لهولاكو الأمريكي دخول بغداد في هذه السرعة، التي لا يقبلها عقل ولا منطق، فإذا كانت أم قصر والناصرية التي هي أصغر بكثير من حارة من حارات بغداد، قاومت بشكل عجيب لأيام، فهل يعقل سقوط بغداد، والذي يبلغ تعداد سكانها قرابة السبعة ملايين، أن تسقط في ساعات.
في يوم الثلاثاء 22 من شهر محرم سنة 656هـ، شرع المغول في الهجوم الكاسح على بغداد، وأحاطوا بالمدينة من كل الجهات ونصبوا عليها المنجنيق، وأخذوا يمطرونها بوابل من الحجارة، حتى دكوا الثغرات في السور والأبراج.
وفي يوم الخميس 17 من شهر محرم سنة 1424هـ شرع الأمريكان في الهجوم الكاسح على بغداد، وأمطروا المدينة بوابل من الصواريخ والقنابل، حتى دكوا الكثير من المرافق والمستشفيات، وبيوت المدنيين، ومواقع عسكرية بنيران صديقة.
في يوم الأربعاء الموافق السابع من شهر صفر، أعلن هولاكو المغولي الهجوم العام على المدينة من الشرق والغرب، وأمر بردم الخنادق وهدم الأسوار، فدخلها وخرب المساجد، وهدم القصور، وانتشر السلب والنهب، وأسرفوا في القتل واستمروا على ذلك أربعين يومًا.
وفي نفس التاريخ بالضبط، يوم الأربعاء السابع من شهر صفر، دخلت القوات الأمريكية بغداد وعاثت في الأرض الفساد، وأهلكت الحرث والنسل، وأسرفوا في القتل والأسر، وانتشر بعدها السلب والنهب.
بسقوط بغداد على يد هولاكو المغولي، انتشر التشيع في المنطقة، وازداد نفوذهم في البلاد، فقد مكن لهم المغول ذلك.
وها نحن ننتظر بعد سقوط بغداد على يد هولاكو الأمريكي، لمن تكون السلطة، ولأية جهة سيمكن الأمريكان، في بلد تكثر فيه الأحزاب والتوجهات والأفكار والمذاهب، خليط عجيب نسأل الله تعالى أن يلطف بالمسلمين.
أيها المسلمون، وأمام هذا العرض التاريخي السريع، نعرض بعض الحقائق المهمة:
أولاً: زوال الرايات المزيفة: من حكمة الله عز وجل، وله الحكمة البالغة أن شتت الله شمل البعث في هذه الحرب، وفرق جمعهم، وأزال دولتهم، ولو بقي البعث لكانت الحرب بين رايات كفرية، البعثية والصليبية، لكن بعد زوال البعث، صارت الحرب واضحة، وأنها الآن بين الإسلام والصليبية، وفي هذا خير عظيم، وهو وضوح الرايات، وتحديد موقف كل من يقف تحت أية راية.
ولا يعني هذا أن أمريكا خير لنا من البعث، فنحن نعلم بأن وجود النظام السابق في العراق، خير للعراق وللمسلمين خارج العراق، من احتلال الولايات المتحدة لأرض المسلمين. والإنسان قد يفرح لحدوث أمر ما، أو زوال شيء ما، والأيام والتاريخ يثبت بعد ذلك أن وجوده كان خيرًا له، ولعلي أذكركم بمثال سابق في التاريخ: كم فرحنا نحن المسلمين جميعًا عند سقوط الاتحاد السوفيتي، واندحار الشيوعية وهلاك الدب الأحمر، لكن ألا تتصورون لو كان الاتحاد السوفيتي موجودًا، وبنفس قوته التي كانت تمثل القوة الثانية الضاربة في العالم، فإن أمريكا كانت ستقدم رجلاً وتؤخر عشرين رجل لدخولها العراق، وربما كان في صالحنا الآن وجود السوفييت، لكي لا تتفرد أمريكا بشؤون العالم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الحقيقة الثانية: جبن الأمريكان، وأن قتالهم وحربهم إنما هو حرب طائرات وإلقاء القنابل من بعد، والتاريخ قد أثبت بأنهم لم ولن يدخلوا أي بلد دخولاً بريًا، إلا بالتنسيق مع المنافقين في تلك الدولة، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك، ففي حربهم مع الأفغان، كانت حرب طائرات، ومن مسافات شاهقة جدًا، ولم ينـزلوا إلى الأرض إلا بعد التنسيق مع المنافقين في الشمال.
وفشلت أمريكا فشلاً ذريعًا في كل من كوبا والصومال، وانسحبوا ولم يحققوا ما أرادوا، والسبب هو أنهم لم يجدوا منافقين في الداخل يخدمونهم، وفي العراق أصابع النفاق أصبحت واضحة لكل من كان يتابع الأحداث، أنهم وراء ما حصل في بغداد وغيرها من المدن العراقية، والتاريخ لن يخفي شيئًا، وسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه الأوراق. لكن نخرج من هذه النقطة، بأن القضاء على الوجود الأمريكي في العراق أو في غيره من الأماكن، يستلزم القضاء على المنافقين في الداخل أولاً.
الحقيقة الثالثة: الحر ب لم تنته، إن صراعنا مع الصليبية صراع طويل، وهذه الحرب ليست هي نهاية المطاف، ولا يعني دخولهم العراق واحتلالهم لبغداد نهاية الإسلام في أرض الرافدين، وإنما هي جولة وستعقبها جولات وجولات، وحتى بالنسبة لاحتلال أمريكا للعراق، فإن المؤشرات القريبة والبعيدة تشير إلى أن أمريكا لن يستقر لها قدم في العراق، والزمن سيثبت هذا، صحيح أن جزءًا كبيرًا من الشعب العراقي كان يكره النظام السابق، لكنهم جميعًا يكرهون أمريكا أكثر، كيف ينسى العراقيون عشر سنوات عجاف، مرت عليهم وقد ذاقوا فيها الجوع والفقر والمرض، بسبب الحصار الذي ضربته أمريكا على بلادهم، بحجة تأديب النظام، الذي ما شعر بالحصار، فقد كان ينعم كأغنى دولة في العالم، والذي دفع الثمن هو الشعب.
كيف ينسى العراقيون موت مليوني طفل بسبب منع أمريكا دخول الدواء والغذاء إلى بلادهم؟!
فأمريكا لن تستقر في العراق، ومن تاريخ الدنيا أن الظالم لن يستمر، ولن يستقر في أرض يظل بأهلها يدافعون عن حقهم، حتى ولو كانوا كفارًا، فكيف بهذه الأمة، وربما الأمريكان لا يعرفون بأننا أمة لا تنسى هزائمها، وهذه من الخصائص العجيبة لهذه الأمة، وهو أننا لا ننسى هزائمنا، فمعظم شعوب الأرض يمكن أن ينسوا الخلافات بينهم بعد حروب طاحنة، أكلت أخضرهم ويابسهم، ويعشوا سويًا وكأن لم يحدث شيء، وقد رأينا بعض الشواهد على ذلك، فالألمانيون توحدوا في دولة واحدة، بعد خلافات استمرت سنوات عديدة، بل أوربا كلها حصل بينها توحد، بعد خلافات وحروب وكوارث، وتناسوا ذلك كله، ويتوقع أنهم سيمثلون في المستقبل قوة في العالم، وهناك أمثلة غيرها.
أما هذه الأمة، فهي أمة لا تنسى هزائمها، فنحن إلى الآن لم ننس الأندلس، ولن ننساها حتى نستردها، وما زلنا نذكر الأيام الخالدة، والحضارة الراقية التي شيدها المسلمون هناك في بلاد الأندلس، ومعظم المسلمون تحن قلوبهم لبلاد الأندلس، وهم لم يروها، ولم يعيشوا على أرضها، ولم يتنفسوا من هوائها، بل لماذا نذهب بعيدًا، فهذه فلسطين وقد احتلها اليهود منذ أكثر من خمسين سنة هل نسيناها؟! وهل يمكن أن ننساها؟! بل كل يوم يزداد شوقنا لها، وكل سنة تزداد المقاومة، وكلما زاد اليهود بطشًا وقتلاً وتخريبًا، كلما زاد ذلك من حرارة الانتفاضة.
فنحن أمة لا تعترف بالهزيمة أبدًا، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك ما معنا من رصيد ضخم من النصوص القرآنية، والبشائر النبوية، وشواهد التاريخ، بأن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر لهذه الأمة، وأن المحق والكسر يكون لليهودية والنصرانية.
فمن الخطأ أن نفترض بأن جميع الخيوط بأيدي الأمريكان، أو بأيدي غيرهم من قوى الأرض. قد يقول قائل: لكن المشاهد والواقع الحالي بأن هناك خيوطًا كثيرة وقوية، بل حبالاً غليظة سميكة بأيدي الغرب عمومًا، وأمريكا خصوصًا، يتمكنون من خلالها فرض هيمنتهم على مناطق كثيرة من العالم، والتحكم في معظم بل كل دول العالم.
فنقول: هذا الكلام قد يكون فيه كثير من الصحة، لكن نحن بأيدينا أعظم حبل، إن تمسكنا به، إنه حبل الله تعالى: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، خذ هذا المثال: الشعب الفلسطيني، كيف استطاع هذا الشعب الأعزل المحاصر، وقد حاولت أمريكا أن تقطع عنه كل الحبال، أن يقاوم دولة تملك السلاح النووي؟ الجواب في كلمة واحدة: إنه حبل الله.
اركـض برجلك يا هـذا ولا تَهَبِ وانثر بها النقع في أجفـان مغتصبِ
واعقِـل بقلبـك أن الحـق منتصرٌ وأن طالبَ ربِ العـرش لم يخِـبِ
تقول نفسـي لنفسي وهـي خائفةٌ ألم تري أن هـذا اللـيث لم يَثِبِ
وتشتكـي الكمَـد المغليـَّ في دمها عن حـال أمتهـا معقورة الرُّكبِ
يمتصُّ خيراتهـا البرغـوثُ في وضحٍ كالشمسِ طاهرةً من غمرةِ السحبِ
ويشتم الدِّيـن ما للـدين من رجلٍ يَعُـدُّ إذلالـه من أفضـل القُرَبِ
يا ويل من أقسـم العبد الفقيـر لهُ ولم يـراوغ لـه باللهـو واللعبِ
والله لـن ينعـم الكفَّـار في بلـدٍ حتـى نعايشـه أمنـًا بـلا رِيَبِ
ولـن تـزال بظهـر الأرض طائفةٌ يزلزلون عـروش البغي باللهـبِ
أيحسـبُ العلـج تيْهـًا أنَّنـا نفرٌ نقيم في الضَّيم كالأوتـاد للطنبِ
والله إن الفتــى فيـنـا لمرخيَـةٌ عيناه دمعًا ينـادي كاشفَ الكربِ
ويحمـل الروح فوق الكفّ يوم ترى قرينَه في ظـلال العيـش والرَّغبِ
يسعى إلى الموت سعيَ الليل في غسَقٍ يغشى النهار حثيث السعي والطلبِ
إنـا لمــن أمـةٍ دان العـدوّ لها لمَّا ارتدت حلَّـةً مفتولـة السَّبَـبِ
تضـمُّ كـلّ بنيهـا بالجنـاح معًا وترقَعُ الخرقَ لا تُغضي لذي حسَبِ
ونقـشُ حلَّتهـا يـا قـوم لا تهنوا أو تحزنوا ما دَجـى ليـلٌ على يَبَبِ
إن أرجفت صُحُف التضليل في سفهٍ فالسيف أصدق إنباءً من الكُتُـبِ
بارك الله لي ولكم...
|