هبَّت في أيَّامكم هذه على قلب كلِّ مؤمن نسيم الشوق إلى الله تعالى، أما شعرتم ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّكم في أيَّام مباركات ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [الحج:197]، فالأشهر المعلومات هي هذه الأشهر الثلاثة التي يُهَلُّ فيها بالحجّ.
ولا شكَّ أنَّ المؤمن في هذه الأيَّام المباركة تتحرَّك نفسه شوقًا إلى بيت الله الحرام، لأداء فريضة الحجِّ والعمرة، استكمالا لمباني الإسلام.
يذكر عن بعض الصالحات أنَّها حين وصلت إلى مكَّة بقيت تقول لرفقائها: أروني بيت ربِّي؟ أين بيت ربِّي؟ قيل لها: الآن ترينه، فلمَّا رأته اشتدَّت نحوه فالتزمته وفاضت عيناها من شدَّة الشوق، وليس بها الشوق إلى البيت، ولكن إلى ربَّ البيت، فاستذكرتها رؤية بيت الله رؤيةَ الله يوم القيامة، فلم تزل على تلك الحال حتَّى خرجت روحها فماتت.
أيُّها المسلمون، إنَّنا نؤمُّ هذا البيت خمس مرات في اليوم، فلا تزال قلوبنا متَّصلة به كلَّ يوم باستمرار، فلا غرو أن تدفع هذه الصلة المستمرَّة قلب المؤمن إلى توقان نفسه للتوجُّه إلى بيت الله حتَّى يمتع بصره بالنظر إليه والطواف به والتماس الحجر الأسود الذي هو بمنزلة يمين الله في الأرض.
ولذا تجد قلوب الصالحين تحنُّ إليه، لا ينقطع شوقها إليه حتَّى تلتزمه وتطوف به، كما تطوف الملائكة حول البيت المعمور في السماء.
تتأهَّب في هذه الأيام نفوسٌ اكتملت لديها أسابب الاستطاعة، للسفر إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة.
إنَّ السفر للحجِّ والعمرة ليس كمثل سائر الأسفار، المسافر إلى بيت الله مسافرٌ إلى ربِّه على جناح الشوق والمحبَّة، يقطع في سفره بقلبه مسافات ومنازل ليست كمسافات الأرض التي يقطعها ببدنه، إنَّها مسافة الدنوِّ والاقتراب إلى الله في المكان الذي يتقرَّب فيه من عباده ويدنو منهم، والعبد في سفره هذا ينزل بقلبه منازل تغمر روحه بمشاعر الأنس بالله والفرح به وبمناجاته والسرور بقربه والفوز برضوانه ومغفرته، إنَّه سفر فوق الوصف، تقصر دونه العبارات.
قيل لامرأة خرجت مسافرة: إلى أين؟ قالت: إلى الحج إن شاء الله، فقيل لها: إنَّ الطريق بعيد، فقالت: بعيد على كسلان أو ذي ملالة، فأمَّا على المشتاق فهو قريب.
وقد جرت للصالحين حين ركوبهم لسفر الحج أحوال من الخوف تارة والشوق والمحبة تارة أخرى، وقلب المؤمن يتقلَّب بين هاتين المنزلتين.
فذكر عن علي بن الحسين أنَّه حجَّ، فلمَّا أحرم واستوت به راحلته اصفرَّ لونه وارتعد ولم يستطع أن يلبِّي، فقيل: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فلمَّا لبَّى غشي عليه. ويذكر نحو هذا عن جعفر الصادق وغيره.
ويذكر عن بعض الصالحين حين ركب دابَّته في سفر الحجِّ أخذه البكاء فقيل: لعلَّه ذكر عياله ومفارقته إياهم، فسمعهم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلاَّ لأنِّي ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب والبكاء، وهيَّج من حوله بالبكاء.
فها أنتم ـ أيُّها المسلمون ـ في موسم من مواسم الخير عظيم، رتب الله عليه الثواب الجزيل والأجر الكثير لمن أداه فأحسن.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أعظم حقوق الإسلام ومبانيه حج بيت الله الحرام، قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
هذا ما تسمعون وبالله التوفيق.
|