أيها المسلمون، لقد ازدادت مشكلة غلاء المهور، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور الشاقة والمستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج. ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، أإلى هذا المستوى بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تعرض المرأة المسلمة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات من العوانس مخدرات في البيوت حبيسات في المنازل بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن.
إخوة الإسلام، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية)، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على عشرين دينارا فقط.
وجاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: إني وهبت من نفسي، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها؟))، قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: ((إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا))، فقال: ما أجد شيئًا، فقال النبي : ((التمس ولو خاتمًا من حديد))، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء؟))، قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله، ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم وتزوجها.
وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو من أغنى أهل المدينة، والذي توفي عن أربعة وستين مليون دينار، تزوج على وزن نواة من ذهب، صاحب الملايين تزوج على وزن نواة من ذهب.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، قال النبي : ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحل)).
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين، يتقدم لخطبة ابنته الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد ولي العهد، فيرفض، ويزوجها لتلميذ صالح صاحب دين وخلق، اسمه عبد الله بن أبي وداعة، ماتت زوجته، فقال له شيخه: وهل استحدثت امرأة غيرها؟ قال: ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! فقال: أنا أزوجك، وزوجه بابنته على درهمين أو ثلاثة. يقول التلميذ عبد الله بن أبي وداعة: فدخلت بها فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله، وأعرفهم بحق الزوج، وبعد شهر عاد إلى شيخه سعيد، فدفع له شيخه عشرين ألف درهم.
معاشر الإخوة، إن قصة سعيد بن المسيب وتلميذه عبد الله بن أبي وداعة توبيخ لمن باع ابنته بالدرهم والدينار، واشترط لها أموالاً طائلة وتكاليف باهظة، لقد آثر سعيد ما يبقى على ما يفنى، والسعادة ـ والله ـ ليست في الأموال، وإنما في الإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وقد أنكر الرسول على المغالين في المهور، فقد جاءه رجل يسأله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة، فقال النبي : ((أوّه، على أربع أواق من الفضة؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)).
أمة الإسلام، يا أمة محمد، يقول الرسول : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)). هذا أمر رسول الله الذي خالفه بعض الأولياء هداهم الله، فخانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، وعن وظيفته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، ألم يسمع هؤلاء بالقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يقرؤوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان.
أين الرحمة في قلوب هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين يزوج تلميذه أبا وداعة.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف سوى المهر للمرأة، والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال. أما ما عداها من الهدايا والنفقات، كغرفة النوم وأثاث البيت والملابس والمال الذي يعطى لأب العروس وإخوتها وعمها وخالها، فهي ليست فرضًا واجبًا، وليس من شروط العقد والنكاح في شيء أبدًا. ومن أراد أن يكرم على العروس فليكرم عليها من ماله.
والله الذي لا اله إلا هو، إنه لمن العار على أقارب العروس أن يأخذوا من العريس ما يكرمون به على رحمهم أمام الناس، يطلب ولي العروس مهرا بآلاف الدنانير، ويبخل عليها بعشرة دنانير، أإلى هذا المستوى ـ أيها الناس ـ أصبحنا تبعا للعادات والتقاليد الجاهلية؟!
يا أمة محمد، يا خير أمة أخرجت للناس، لم يشرع في الزواج إلا المهر، فمن أين جاءت تلك التكاليف الباهظة؟! ذهب، غرفة نوم، ملابس، أثاث بيت، هدايا لأقارب العروسين، العم والخال، أجرة صالون، نفقات حفلة الزفاف، وغير ذلك من تبعات الزواج، ناهيك عن المهر المؤجل الذي يبقى دينا على الزوج في حياته ومماته، آلاف الدنانير هي تكاليف الزواج عندنا.
كل هذا على من؟! على عامل ينام في العبارات أو في الحرش، تحت الأرض أو فوق الشجر، يعمل يوما ويسجن أياما، أو على موظف معاشه لا يكفي لحاجاته الضرورية، فكيف سيوفر آلاف الدنانير؟! كم سنة يحتاجها لتوفير هذا المبلغ؟! شباب فقراء مساكين في مجتمع لا يرحم، يحلمون بالزواج وكأنه أصبح ضربا من الخيال.
فإلى من تكلوهم يا عباد الله؟! إلى الاحتلال الصهيوني الذي يسقطهم أفواجا أفواجا، أم إلى السلطة الفلسطينية التي أحلت لهم الزنا واللواط، ووفرته لهم في الجامعات وأماكن الاختلاط؟!
فيا أولياء الأمور، أين الرحمة بهؤلاء؟! بل أين الرحمة ببناتكم؟! كل شيء بالانتفاضة تأثر إلا المهر، وكل العادات تتغير وتتبدل إلا في الزواج، فإلى متى يا عباد الله؟! إلى متى يا أولياء الأمور؟! إلى متى يا من تتركون سنة الحبيب المصطفى؟!
الرسول لم يُزَوِّج ولم يَتَزَوَّج بأكثر من عشرين دينارا بمستوى معيشتنا، وأمته في هذا البلد لم تُزَوِّج ولم تَتَزَوَّج بأقل من ثمانية آلاف دينار.
فيا أولياء الأمور، نسألكم بالله العظيم أن تتعاونوا على تخفيض المهور، ويا أيها العلماء، يا أئمة المساجد، يا أهل الدين، يا أهل الخير، نسألكم بالله العظيم أن تزوِّجوا بسنة محمد، فأنتم القدوة، وغيركم تبع لكم. سنة ميتة، من يحييها له أجر مائة شهيد، من منكم يكون أهلا لها؟! من منكم يملك الجرأة الكافية والإيمان القوي لينتصر على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى تلك العادات الجاهلية الموروثة، فيثبت بذلك حبه لرسول الله ، ويسن سنة حسنة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟!
أيها المؤمنون، يقول النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وهذا خطاب للرجال العقلاء، لا للنساء اللواتي قُلِّدن أمر الزواج في هذا المجتمع.
لقد صار بيد المرأة الموافقة على الزواج، وبيدها تحديد المهر، فكثرت العوانس، وغلت المهور، وتضاعفت نفقات الزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من فِعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج، إلا إذا كانت تزن الأمور بميزان الشرع والدين، ومثل ذلك قليل. فكم سمعنا عن أمهات يفسدن زواج بناتهن؛ لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست بأقل من بنت فلان.
إن المرأة ـ أيها الناس ـ مهما بلغت فهي ناقصة عقل، ولا تكاد تعرف عواقب الأمور، لذلك قال الرسول : ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). ولذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. هذا أمر الله للأولياء بتزويج أبنائهم وبناتهم، ووعد منه برزقهم ورعايتهم، ومن أصدق من الله قيلا؟!
إن العار إذا لحق إنما يلحق بالرجال. فاحذروا ـ أيها الرجال ـ فالقوامة لكم لا لنسائكم.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
|