أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ التاريخ أستاذٌ ينبغي أنْ تُستقى منه العبر، وأن تُؤخذ منه الدروس، يقول الله عزّ وجل: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، إنه لا يحدث في هذه الدنيا حدث إلا بتقدير الله له قبل أن يخلق العالم بخمسين ألف سنة، وإن أساس ما يجب أن يعتقده المسلم في أقدار الله تعالى الكونية والشرعية، أنها منطلقة من حكمة بالغة، فإن الله لا يخلق شيئاً عبثاً سبحانه، حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ فَمَا تُغْنِـى ٱلنُّذُرُ [القمر:5]. وإن الناس إن لم يستفيدوا مما يحدث في هذه الدنيا من الأمور، يكونون قد فرطوا تفريطاً عظيماً فيما ينفعهم وفيما يصلح من أحوالهم، ألم تسمع إلى قوله تعالى بعدما هزم بني النضير: هُوَ ٱلَّذِى أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لأَِوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ٱللَّهِ فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَـٰرِ [الحشر:2]، فأخذ العبرة من الأحداث واجب، وتأملها من أعظم ما ينفع الإنسان في تسيير حياته.
إذا عرفنا هذا كله، ونحن نشاهد سقوط جيش عظيم، قرابة نصف مليون مدجج بأنواع الأسلحة التقليدية، من الصواريخ والدبابات والآليات، جيش له تجارب وخبرة ضخمة على مدى 24 سنة، جيش عرف بقوته وجبروته وبطشه، ومع ذلك ينهار في ظرف 20 يوماً، وإن كان الأمر ما يزال محيراً، إلا أن القاعدة التي تعلمناها من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه وهو يخاطب قائد الجيش يقول له: (يا سعد بن مُهَيْج، يا سعد بن أبي وقاص، لا يضرنك أن يقول الناس أنت خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتق الله وكن على حذرٍ من المعصية، إني أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله، فإنكم لا تنتصرون على الأعداء بعددٍ ولا عُدَّة، وإنما تنصرون بطاعتكم ومعصية عدوكم, فإن عصيتم الله كنتم أنتم وهم سواء، ينتصر بعد ذلك من كان أكثر عَدَداً).
إذن إنهار جيش العراق لأجل هذا، وغلبوهم بالعدد والعدة.
وبينما نحن نشاهد جيوش الروس بجميع أسلحتها، من الطائرات والصواريخ والدبابات والآليات وخبرتها كأقوى قوة تناطح أمريكا، رأيناها مدحورة مخذولة قد دوختها طائفة مؤمنة تقية نقية وٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، ليس عندها جيش نظامي ولا دبابة واحدة، وقد رأينا كذلك نفس الجيش الأمريكي، يظل أُسْد الله من المجاهدين الأشاوس في أفغانستان، يقاومونه إلى آخر رمق وآخر نفس، بل وهم مستمرون في النيل منه حتى هذه الساعة، حصروه داخل أسواره وأسلاكه الشائكة، لا يستطيع الخروج منها والتنقل بحرية، بل إنما يمنعه من كيد المجاهدين ويحميه طائفة مرتدة من أتباعه المنافقين، كل هذا وكل العالم يعلم يقيناً بأن هذه الطائفة ليس لديها ما كان لدى جيش البعث من العتاد والخبرة، أليس هذا عجيباً؟!!
أيها الإخوة المسلمون، إن سر انتصار المسلمين مكمنه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزَعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود وأحمد من حديث ثوبان، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
نعم إنه باختصار كراهية الدنيا وطلب الآخرة بصدق، التي لا يمكن الفوز بما أعد الله تعالى فيها إلا بحب الموت، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (اطلب الموت توهب لك الحياة).
لا تسقني كأس الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
بل حتى بلاد المسلمين المحتلة في الأرض المباركة، أرض فلسطين، أرض الشام، أرض الملاحم قبل قيام الساعة، كل العالم يشاهد ويسمع تلك العجائب! كيف يتصدى أطفال بحجارة، وشباب لا يملكون من السلاح غير سلاح الإيمان، والحرص على طلب الجنان مهما كان، كيف يتصدون لما يصفه العالم بأنه أقوى جيوش المنطقة، وخامس أقوى جيش في العالم، الذي قال أحد المراقبين اليهود: "كل شعوب العالم تملك جيشاً، إلا في إسرائيل، فإنها جيش يملك شعباً"!!
نعم شباب الانتفاضة، هم يقاومون بمعنويات مرتفعة، يسندها أنهم لا يستمعون ولا يبالون بما يصرخ به المتقاعسون اللاهثون وراء سلام الشجعان، الذين كلما وقعت عملية ناجحة بكل المعايير ضد العدو المحتل، أتى هؤلاء ونبحوا معلقين: "وكل هذا سيؤدي إلى انتقام شديد من قبل العدو المحتل". هذه الفتية التي آمنت بربها واهتدت، زادهم الله هدى، حتى اليهود في إعلامهم يعترفون بهزيمتهم مقابل الانتفاضة، فلننظر ماذا قال الخبير الإستراتيجي اليهودي "فان كرفيلد" وهو أستاذ الدراسات العسكرية في الجامعة العبرية، وعدد من الأكاديميات العسكرية حين يتحدث عن هذا التغيير ونتائجه، وكيف ربطه بكل جرأة وصراحة بنهاية دولة إسرائيل: "لا نجد جيشاً نظامياً نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها. ما يحدث معنا اليوم هو ما حدث مع الأمريكيين في فيتنام، والإسرائيليين في لبنان، والروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى، وهذا ما سيحدث للأمريكيين في أفغانستان".
فيقول له الصحفي: ألا يوجد لديك مثال مخالف؟
قال: أنا لا أعرف مثالاً مخالفاً، إننا ندير حرباً للطرف الآخر فيها كل الإيجابيات، فنحن نقاتل في ملعبه، الجيش اليوم موجود في الجانب غير الصحيح، في الجهة التي سيحكم عليها بالفشل".
ويقول: "لدينا قوة كبيرة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعمله، وحتى لو استعملناه فثمة شك في نجاحه، فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طن من القنابل، على فيتنام ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم".
و يعبر "يوري أفنيري" الذي كان عضواً في الكنيست عن هذه الهزيمة بمثال:
"دخل ملاكمان الحلبة: واحد منهما بطل الوزن الثقيل، والآخر وزن الريشة. ويتوقع الجميع أن يقوم البطل بتسديد ضربة قاضية تقضي على غريمه الهزيل في الجولة الأولى.
ولكن بأعجوبة تنتهي الجولة الأولى، والضربة القاضية لم تسدد بعد، ثم الجولة الثانية، ويستمر نفس الوضع، وبعد الجولتين الثالثة والرابعة لا يزال خفيف الريشة واقفاً، مما يعني أنه هو الرابح الحقيقي، لا بالضربة القاضية ولا بالنقاط، وإنما لمجرد أنه لا يزال واقفاً ومستمراً في الصراع مع غريمه القوي".
ولنعرف السبب ـ أيها الإخوة ـ لنتأمل قوله تعالى: فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ [الحشر:2]، يقول: "فان كرفيلد" أيضاً: "في عام 1994 دعيت لإلقاء محاضرة في هيئة الأركان الصهيونية العامة، وكان قائدها آنذاك إيهود باراك (رئيس الوزراء فيما بعد)، لقد خرجت من المحاضرة مصعوقاً من مستوى وسلوك الجنرالات آنذاك، فبعضهم انشغل في أكل الساندويتشات، والآخر تكلم، والبعض ثرثر، ورابع لعب في الأوراق التي أمامه، وبعضهم انشغل بالحواسيب يلعب بها كالأولاد الصغار، لقد فعلوا في أثناء المحاضرة كل ما يفعله طالب فوضوي، ما عدا قذفهم المحاضر بالأوراق! ولقد سألت باراك إن كانت هذه الفوضى دائماً تحدث أثناء المحاضرة فأجاب: "بشكل عام.. الوضع أكثر صعوبة"، إن مستوى الفوضى لدى الضباط فاجأني، إنهم مجموعة من المتخلفين، ولم ألتق بمجموعة جاهلة كهذه المجموعة في أي إطار، وهم أشد جهلاً في موضوعهم "الجيش الإسرائيلي" بما في ذلك تاريخ ونظريات الجيش".
فيقول له الصحفي: إذن ماذا يتعلمون في الدورات؟
فيجيب: الله وحده يعلم.
فيعود ليقول له: إذن نحن في طريقنا إلى البحر؟
فيجيب: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا سنصل إلى تفكيك "دولة إسرائيل"، ليس عندي شك في ذلك، والدلائل موجودة، ولكن قبل أن نتفكك نهائياً ستنشب هنا حرب أهلية، وهذا هو الخط الأحمر بالنسبة لي، ولو وقعت جريمة قتل أخرى، كتلك التي حدثت لرابين، فسأرحل أنا وعائلتي، تاركاً أبناء شعبي الذين أحبهم هنا، ليقتل الواحد منهم الآخر"اهـ.
وعن الطرف الآخر يقول:
"فيما يتعلق بالفلسطينيين، فإن هذا الأمر يعمل بشكل عكسي تماماً، فهم يملكون دائما ثقة بالنفس عالية، ويمكنك أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرمة، كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة، وفشل يتبعه فشل، فالرجال يرفضون الخدمة العسكرية، والجنود يبكون على القبور، في نظري أن هذا البكاء أحد أغرب الأمور، ولو كان بوسعي فعل شيء لمنعت بث هذه المشاهد وهذه الصور، ومن الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الانتقام ومعنويات عالية، وما عليك إلا أن تقارن الجنازات، حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر، ومعنويات أعلى: عندنا ينوحون، وعندهم يطلبون الانتقام، إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفييت في أفغانستان، وما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الفرنسيين في الجزائر".
ولا بأس ـ أيها الإخوة ـ أن نذكر لكم كذلك ما قاله "جرشون باسكين"، المدير العام المشترك للمنظمة الإسرائيلية الفلسطينية للبحوث والمعلومات، حيث كتب يقول موضحاً سبب الانتصار للانتفاضة:
"إن الفلسطينيين يعرفون أن قوتهم العسكرية أقل بأضعاف من القوة الإسرائيلية، وأنه لا توجد أمامهم أية إمكانية للفوز في أرض المعركة، ولكنهم يؤمنون من الناحية الأخرى بتفوقهم السياسي والأخلاقي. واعتقادهم هو أن العدل والتاريخ يقفان إلى جانبهم، وهم يقولون: إن إسرائيل هي المحتل الأخير المتبقي في العالم، وأن أحداً لا يستطيع أن يوقف نصرهم في حرب التحرير التي يخوضونها من الاحتلال الأجنبي، ـ إلى قوله ـ وهم مقتنعون أنهم سيحققون ذلك في نهاية المطاف، من خلال الكفاح الذي يخوضونه الآن"، أي من خلال حرب التحرير الفلسطينية.
هذه شهادة العدو المحتل والحق ما شهدت به الأعداء.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا اللهم لصالح القول والعمل برحمتك يا أرحم الراحمين، بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو البر الغفور الرحيم.
|