أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، سنّةُ الله ماضية في الابتلاءِ والامتحان، والحقُّ والباطل في هذه الحياة في صراع مرير مستمِرّ، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيِيَ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42]، أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. وليس أحدٌ معصومًا من البلاء، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الصالحون الأمثل فالأمثل.
ولهذا البلاءِ حِكمٌ من الله جلّ وعلا، فمنها تمييزُ الخبيث من الطيب، لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [الأنفال:37]، فيظهر صدقُ الصادِق من كذب الكاذب. ومن فوائدِ البلاء رفعُ درجات العبد، وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:120]. ومنها تكفيرُ الخطايا والسيئات، ((ما يصيب العبدَ من همٍّ ولا نصَب ولا وصب، حتى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه)).
وموقفُ المؤمن مِن البلاء الصبرُ والاسترجاع، وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ [البقرة:155، 156]، رضًا بقضاء الله، فلا تسخُّطَ ولا كراهية، في الحديث: ((ليس منَّا من ضرب الخدودَ وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)).
أيّها المسلم، وممّا يعينك على الصبر عندَ الامتحان والابتلاء مواقفُ أنبياءِ الله وخيرتِه من خلقه، فقد قصَّ الله علينا أنباءَ الماضين للاعتبار والاتِّعاظ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ٱلألْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء [يوسف:111]، وَكُـلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].
لقد قصَّ الله علينا قصصَ أنبيائه المرسلين، وماذا واجهوا في دعوتهم، وماذا قِيل لهم، وما هو البلاء الذي حلَّ بهم، ثمّ ما هو صبرُهم وتحمُّلهم، كلُّ ذلك في سبيل الله والعاقبة للتقوى.
نوحٌ عليه السلام أوّلُ رسُل الله إلى الخلق، ماذا جرى له؟ مكَث في قومه ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سِرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارا، لينقذهم من الضلال، ويصعد بهم إلى طريق الهدى، والله يقول: وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]. سخِروا منه، وسخِروا من أتباعه، وقالوا له: لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ [الشعراء:116]. أنجى الله نوحًا وأتباعَه، وأغرق قومَه. ابتُلي بكفر ابنه وصدودِه عن أبيه، والله يقول له: إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ [هود:46].
إبراهيمُ أبو الأنبياء بعده، بعثه الله لأبيه وقومه، يدعوهم إلى الله، ويبيِّن لهم توحيدَ الله، ويحذِّرهم من عبادة الأصنام، ويبيِّن لهم فسادَ معتقدِهم وباطلَ ما هم عليه، فما كان من أبيه وقومه إلاّ التكذيبُ والإنكار، لقد تلطَّف مع أبيه في دعوته: يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيًّا يٰأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيًّا [مريم:42-45]، وماذا قال أبوه؟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِى مَلِيًّا [مريم:46]. لقد أقام الحججَ والبراهين العقلية على فسادِ عبادةِ الأصنام وضلالها، وعدم قدرتها على تخليص نفسها، فكيف تُتَّخذ أربابًا وآلهة؟! أوقَدوا نارًا ليحرقوه، فقال الله لها: كُونِى بَرْدًا وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ [الأنبياء:69]. وهَبَ الله له في الكبَر إسماعيلَ وإسحاق، فلما ترعرع إسماعيل وتعلَّقت نفس الأب به أمره الله بذبحه ليبتليَ إيمانه وصدقه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، كلُّ ذلك ليظهرَ إيمان الخليل، ولذا اتخذه الله خليلاً، وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125].
يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاق، نبيٌّ من أنبياء الله، ابتُلي بما ابتُلي به، ابتُلي بصدودِ إخوته عنه، ومحاولتهم إلحاقَ الأذى به، وأُلقي في البئر، فاشتُري وبيع، وصار عند عزيز مصر رقيقًا وهو الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بن الكريم، فابتُلي بامرأة العزيز، كما ابتُلي بإخوته، ولكن الصبرُ والثبات على الحقّ حال بينه وبين ما أُريد، كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
وأيوبُ يقول الله عنه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ [الأنبياء:83، 84].
التقم الحوتُ يونسَ عليه السلام، فصار في بطنِ الحوت ينادي ويناجي: أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:87]، قال الله: فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ [الأنبياء:88]، فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].
سيِّدُ الأوّلين والآخرين، سيّد ولد آدم، أفضلُ خلق الله على الإطلاق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، خاتم أنبياء الله ورسله، بعثه الله على حين فَترةٍ من الرسل واندراس من العلم إلى قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله، وما طرق أسماعَهم نذيرٌ قبلَه، إلى قومٍ غارقين في وثنيَّتهم، غارقين في جهالاتهم وضلالاتهم، بدأهم بدعوةِ إيّاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، ليقولوها ويعمَلوا بمقتضاها، ويدَعوا تلك المعبوداتِ الباطلة، فما كان من قومه إلاّ أن وقفوا موقفَ العداء منه، فوصفوه بما هو بَراء منه، وما يعلمون في كنانة أنفسِهم براءته منه، قالوا عنه: الكذّاب والسّاحر والمجنون والشاعر والمفتري، وكلُّ ذاك باطل والله يقول: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
ألحقوا الأذى به وبأتباعه من أقرَب الناس إليه أيضًا، وحاصَروه في الشِعب، وجرى ما جرى. خرج خارجَ مكّةَ عسى أن يجدَ من يسمَع رسالتَه ويقبَلها، فقوبِل بالتكذيب، ورماه سفهاؤُهم بالحجارة، فأدمَوا عقبَه، وملكُ الجبال يأتيه بأمر الله: أَأُطبق عليهم أخشبي مكة؟ فيقول كلمتَه العظيمة: ((أتأنَّى بهم؛ لعلّ الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا))، فحقَّق الله له أمنيّتَه، وحقَّق الله له رَجاءَه، فما مات حتى انقادت له الجزيرة، وآمن به أهلُها، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
موسى بنُ عمران كليم الرحمن، أحدُ أولي العزم من الرسل، ولِد ذلك النبيّ الكريم في زمنٍ كان فرعونُ يقتُل الذكورَ من بني إسرائيل ويستحوِذ على النساء ويُبقيهن، وكان ذاك بلاءً عظيمًا، لكن قدرة الله فوق قدرة البشر كلِّهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
التقَطه آلُ فرعون حقدًا عليه لكي يقتلوه، وإذا القدرة الربّانيةُ أن ألقى الله في قلب امرأةِ فرعونَ حبَّه ومودَّته، قالت لفرعون: لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [القصص:9]. تربَّى في بيت فرعونَ وعلى فراشه وفي نعمتِه، وفي قضاء الله ما لا يعلمه البشر.
أمره الله وأخاه أن يأتيَا فرعونَ، ذلك الطاغية الذي ادَّعى أنّه الربُّ الأعلى: أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ [النازعات:24]، ليدعُوَاه إلى الله، وقال لهما: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ [طه:44]. موسى عليه السلام عرف رهبةَ فرعونَ وطغيانَه، فقال الله: إِنَّنِى مَعَكُمَا [طه:46]، فبيَّن الله له أنه معه ناصرُه ومؤيِّده.
ابتدأ دعوتَه لفرعون، يدعوه إلى الله، يدعو ذلك الطاغيةَ المتكبِّر الجبّار إلى الله وإلى توحيده، يدعو من يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى [القصص:38]، ليقول له: الله خالقك وخالق الخلق كلِّهم. استكبر وأبى، طلب آيةً تدلّ على صِدق موسى، فإذا العصا التي يحمِلها تحوَّلت بأمر الله حيَّةً تسعى، وإذا يدُه تنقلب بيضاءَ تحاكي الشمسَ في قوّة إضاءتها، ومع هذا فما ازداد إلاَّ طغيانا وكفرًا.
أقام موسى يدعو إلى الله ويطلب من فرعونَ أن يخلِّص بني إسرائيل من ظُلمه وطغيانه، والآيات والبراهينِ ترِدُ حينًا بعد حين، ولكن ذاك لاجٌّ في طغيانه وضلاله، وَمَا تُغْنِى ٱلآيَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101]. في زمنٍ كان السحرة لهم شأنهم، ولهم دورُهم في الدنيا، وفرعونُ يراهم قوَّتَه وجنده، ويراهم مَن يعتمد ويعوِّل عليهم في أموره كلِّها.
دَعا فرعونُ موسى للمناظرةِ والمجادَلة في يومٍ ليظهرَ من كان محِقًّا ممّن كان مبطلاً. جمع فرعونُ سحرتَه على اختلافهم وتنوُّعهم وكثرتهم، فأتوا بحبالهم وعصيِّهم، ومع موسى أخوه فقط. امتلأ الوادي بأولئك السحرة الذين رُغِّبوا ووعِدوا بأن يكونوا خاصَّةَ فرعونَ وجلساءه إن هم تغلَّبوا على موسى وحدَه، فكان أوّلَ الأمر يدَّعي أنه الربُّ الأعلى، والآن يتضعضَع أمره ويهين شأنُه حينما يطلُب المناظرةَ من موسى عليه السلام.
جمع السحرةُ كيدَهم، وجمعوا ما عندهم وما لديهم، فامتلأ الوادي بتلك الحبال والعصيّ التي في مرأى الإنسان أنها حيّاةٌ وأنها وأنها، أوجَس في نفسِه خيفةً موسى؛ بَشرٌ يخاف كما يخافُ سائرُ الناس، لكن اللهَ جل وعلا ثبَّت قلبَه وقوَّى يقينه: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأعْلَىٰ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ [طه:68، 69]. نعم، إنّ السحرَ أمام الحقِّ يتضاءل، وإنّ السحرَ أمام الوحي يتضاءل، وإنَّ السحرةَ إنما يعلوُ سِحرهم إذا فُقِد الوحي، وأمّا الوحيُ والإيمان فإنّه ضدٌّ للسَّحَرة وطغيانهم وضلالهم.
عصا موسى تحوَّلت حيةً ملأت الوادي والتقمت كلَّ ما فيه، وكادت أن تلتقمَ فرعونَ ومَن معه، فأصيبُوا بالذّهول والإحباط، وتحوّلت تلك القوّةُ إلى ضعفٍ ووهَن، هؤلاء السّحَرة المهرَة في سِحرهم المهرةُ في علمهم وخداعهم رأَوا أمرًا لا طاقةَ لهم به، وآيةً لا استطاعةَ لهم بتحدِّيها، فخرّوا لله ساجدين، ءامَنَّا بِرَبّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ [طه:70]، آمنوا أجمعين لما رأوا تلك الآيات الباهرة. فرعونُ يهدِّد ويتوعَّد، وقالت السحرة: فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـٰيَـٰنَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [طه:72، 73]. آمنوا ساعةً واحدة نالوا بها الجناتِ العالية، وسبحان الحكيم العليم.
بنو إسرائيل كانوا أذلَّةً في أيّام فرعون، فببعثةِ موسى رُفع شأنهم وأعزَّهم الله، وجعل منهم الأنبياءَ والملوك وفضَّلهم على سائل عالم زمانهم، بماذا؟ باتِّباعهم لموسى وإيمانهم وقيامهم بالتَّوراة، ولكن سرعانَ ما تبدَّل أولئك، فعصَوا موسى، وعبَدوا العجل، فجعلهم في التِّيه أربعين سنةً عقوبة لهم. وكان الأنبياء يتعاقبون فيهم، ما مضى نبيّ إلاَّ أتى نبيّ، لكنهم تحوَّلوا عن دينهم، ولجُّوا في طغيانهم، فعاقبهم الله بالعقوباتِ العظيمة؛ ضرب الله عليهم الذلّةَ والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله. ما هي حالهم وأخلاقهم؟ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَادًا وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. حالُ بعضهم من بعض: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ [الحشر:14]، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ [المائدة:64]. موقفُهم من صفاتِ ربَّهم موقفُ الظلم والعدوان، وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة:64]، لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران:181]. أخلاقُ مجتمعِهم: كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:79]. تعاملهم مع غيرهم: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. تلك أخلاقُهم لما انحرفوا عن ملّة الإسلام، وصار لهم من الضلال ما صار.
موسى عليه السلام بعدما أقام داعيًا إلى الله مناضِلاً مجاهدًا خرج من مصرَ فارًّا بأتباعه من ظلمِ فِرعون، فتبعه فرعونُ بقوّته لكي يهلِكه ويقضيَ عليه، انتهى موسى وقومُه إلى البَحر، فرعونُ من ورائهم والبحر أمامهم، فلا محيصَ لهم من عدوٍّ أو غرَق في البحر، قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فماذا قال لهم؟ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. أمره الله فضربَ بعصاه البحر، فإذا البحر ينشقّ اثني عشر طريقًا يبَسًا، والماء كالحواجز بين تلك الطّرق، يسلكه موسى ومن معه آمنًا، ويأتي فرعونُ فينطبِق البحرُ عليه، ويغرقه ومن معه، وأخرجه الله ليكون عبرةً وعِظة لمن بعده.
أيّها المسلم، تلك سنّةُ الله في الابتلاء والامتحان، فليستقِمِ المسلم على دينه، وليثبُت على الحقّ الذي آمن به، وليعلَم أن البلاءَ والامتحان لأهل الإسلام لا بدّ منه.
إنَّ أمةَ الإسلام ـ وهي تعاني من حملاتٍ شرسة ودعايات وتحدِّيات ـ يجب عليها أن تعلَم حقًّا أنه لا ينجيها من كيد عدوِّها ولن يخلِّصها من مكائد عدوِّها إلا تمسُّكها بدينها واعتصامها بحبل الله واجتماع كلمتها على ذلك، فبهذا تحمي الأمّةُ نفسَها بتوفيقٍ من الله من كيد أعدائها، ويكون لها القوّة، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال جلّ وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [الصافات:171-173].
إنّ قصصَ الأنبياء الماضين عبرةٌ وعِظة لمن اتَّعظ واعتبر. جعلني الله وإيّاكم من المعتبرين المتَّعظين، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|