أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصامدون في رحاب المسجد الأقصى تفدونه بالمُهج والأرواح، رغم كيد المحاصرين لهذا المسجد ورغم إجراءاتهم التعسفية للحيلولة بين عباد الله وبيوت الله.
مر بالمسلمين خلال الأسبوع الماضي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، التي جعل منها الفاروق عمر مبدأ للتاريخ الهجري للأمة الإسلامية، لما لهذه المناسبة من أثر واضح في مجرى الأحداث ومسار الدعوة الإسلامية، فهل استوعب المحتفون دروس الهجرة، ووقفوا على أهدافها ومراميها، وحققوا التأسي بصاحبها عليه الصلاة والسلام؟! هل أخذوا منها ما يعينهم على إصلاح أحوالهم وتغيير واقعهم وتحسين أوضاعهم؟!
هذه الأوضاع والأحوال التي نفذ من خلالها أعداء الأمة، لبسط السيطرة على ديار المسلمين وفرض ثقافة المحتل على شعوبهم، تحت شعارات تحرير الشعوب ورعاية حقوق الإنسان ونشر العدالة السياسية والاجتماعية بين هذه الشعوب المقهورة، وكأن قهر الاحتلال يقل عن قهر السلطان والاستبداد، إلى غير ذلك من الدعاوى العريضة التي تخفي وراءها الأهداف الحقيقية لهذه الحملة الاستعمارية التي تستهدف ديار المسلمين.
ولعل ما تروّج له أمريكا لما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الكبير للإصلاح" يأتي ضمن هذه الحملة، لبث المزيد من السيطرة والنفوذ الأجنبي وتعزيز الوجود الاستعماري، والذي انتشرت جيوشه المحتلة في أقطار كثيرة من دنيا العروبة والإسلام، لتنفيذ سياسات المحتلين، والتمكين للغزو الثقافي الذي يستهدف عقيدة الأمة وفكرها ومقومات نهضتها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لو تمثلت أمتكم روح الهجرة وتضحياتها لما وصلت إلى هذا الحد من استهانة الأمم بها، فروح الهجرة تعني اليقين الجازم بأن الله ينصر دينه ويؤيد رسوله، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
ولذلك عاد من كان يطارد رسول الله في الصباح، عاد حارسًا له في المساء بعد أن رأى بأُم عينيه أن الله يمنع رسوله، ولكنه عاد بجائزة عظيمة، إنها سواري كسرى، عاد بسواري كسرى، ليتسلمها سراقة بن مالك في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
إنها الثقة بالله، واليقين بنصره، حين لا يتوجه المرء إلا لله، فلا ضعيف مع الله، ولا قوي بسواه، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ونقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، ومن يتابع مراحل الدعوة الإسلامية يرى المسلمين في مكة وقد تعرضوا لكل أصناف البلاء والاضطهاد من قبل كفار مكة، ولم يسلم من أذى المشركين رسول الله ، فصبر هو وأصحابه، وتحمل الأذى، وتسامت هممهم فوق كل بلاء في سبيل الله ونصرة دينه والثبات على الإيمان، حتى ضاق المشركون بهم ذرعًا، وراحوا يبطشون بأصحاب النبي ، ويخططون لقتل النبي نفسه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30].
فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث دار الهجرة، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، إن المهاجرين في هذه الأيام غرباء في ديار الإسلام.
أيها المسلمون، وبالمهاجرين والأنصار قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة على أسس الإيمان والمؤاخاة وتربية المسجد الذي بناه النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة، هذا يؤكد على دور المسجد في إعداد الأجيال الربانية وحملة الدعوة الإسلامية.
وقد نظم نبينا عليه الصلاة والسلام حياة مجتمع المدينة في وثيقة دستورية تحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين في سماحة وعدالة لم تعرفها أحدث القوانين الوضعية، ولم تقترب منها، وكيف لا والرسول صلى الله عليه يشرع من وحي ربه، والبشر يشرعون من هوى أنفسهم، وينحرفون مع مصالحهم.
أيها المسلمون، ولم يمض طويل وقت حتى عاد المهاجرون الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال في سبيل الله، نصرة لدينه واتباعًا لرسوله، عادوا براية الحق التي هاجروا تحت لوائها فاتحين منتصرين، ليعلو نداء التوحيد فوق البيت الحرام وتنتهي عبادة الأوثان والأصنام، وإذا بمكة ومن حولها من جزيرة العرب تذعن لراية الهجرة، راية الحق، ويُهدي الله جل في علاه نصره لرسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، فهلا حقق المسلمون في هذه الأيام وهم يعيشون ذكرى الهجرة النبوية وصف الإيمان الذي ينصر الله أهله، كما نصر الصحابة الكرام بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام ومن سار على نهجه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))، أو كما قال.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
|