وبعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء:97، 989]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيّها المرابطون ببيت القدس وأكناف بيت القدس، اليوم نودّع عامًا، وغدًا نستقبل عامًا جديدًا، وإنّ لكل شيء بداية ونهاية، إن نهاية عامنا هذا قد آذنت بالرحيل، إن هذا الرحيل ليترك في النفوس الأسى والحسرة والحزن، ويدفع إلى أخذ العبرة والعظة، الأسى على زمن انقضى في غير طاعة الله وابتغاء مرضاته، والحزن على فراق أحبة مضوا بين طيات السنين، وانقطع بهم ما كانوا يأمِّلونه، وغدوا أثرًا بعد عين، وينبغي أخذ العبرة مما مرّ بالأمة الإسلامية من أحداث جسام أقضّت المضاجع وأفزعت القلوب.
فكم مرّ بالأسماع ما نزل ببعض البلاد العربية والإسلامية على يد أعداء الإسلام، من الظلم والقسوة، ومن التخريب والتدمير والقتل والتشريد والتهجير والإبعاد وسفك الدماء وغير ذلك، فتألم له المسلمون جميعًا، إذ كانوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وكم مر بالأسماع وشاهدته العيون من أخبار الزلازل العنيفة والفيضانات الهائلة المروعة ما يُشعر بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق القادر، وكم مرّ بالأمة الإسلامية في خلال العام الراحل من ظروف حرجة كانت مخبر الصدق والإيمان ومحكًا للعزائم الثابتة.
كلّ ذلك ـ أيها المؤمنون ـ مما يجب أن نأخذ منه العبر، وهو مما يدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى والتعلق به والتمسك بدينه والاهتداء بشرعه، لعل الله العلي القدير أن يبدّل المسلمين بدلاً من الخوف أمنًا، ومن البؤس والشدائد والمحن رخاء وعزة ونصرًا، ومن الأعوام العصيبة أعوامًا تشرق باليُمن والخير والبركات.
أيها المسلمون، إن الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ـ تلقي بظلالها ومشاهدها وأحداثها في هذه الأيام، فلقد كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي في مكة فتنة الإيذاء والتعذيب، وما ألمَّ بهم من المشركين من ألوان الهزء والسخرية، فلما أذن لهم الرسول الكريم بالهجرة أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودُورهم وأمتعتهم.
ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم أمام الفتنة الأولى والفتنة الثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزيمة صادقة، حتى إذا أشار عليهم الرسول بالهجرة إلى المدينة توجهوا إليها، وقد تركوا الديار والأموال ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عن ذلك بإخوانهم الأنصار الذين ينتظرونهم في المدينة.
وهذا المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، هذا عن أصحاب رسول الله في مكة.
أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل.
أيها المسلمون، إن هذه الهجرة كانت فرضًا في أيام النبي ، أي: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وقد انقطعت هذه الهجرة بالفتح كما ورد في الحديث الشريف: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا))، والأمر الثاني: الذي يُستنبط من مشروعية هذه الهجرة هو وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعض مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنًا، فقد اتفق العلماء والأمة على أن المسلمين إذا قدروا على إنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهات الأرض ثم لم يفعلوا ذلك فقد باؤوا بإثم كبير.
أيها المؤمنون، وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعض، فإنه لا يجوز في الوقت ذاته أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم، وهذا ما جاء واضحًا في كلام الله العلي القدير إذ يقول: وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
أيها المؤمنون، ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همُّها أن تعيش بأي أسلوب أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة ما دامت تجد القوت واللذة، فلو كانت كذلك فقد أراحت واستراحت، كلا وألف كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدّد صلتهم بالله تعالى وتوضح نظرتهم إلى الحياة، وتنظم شؤونهم في الداخل، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة، وفرق بين امرئ يقول لك: همي في الدنيا أن أحيا فحسب، وآخر يقول: إذا لم أحرس الشرف وأحفظ الحقوق وأرضى لله وأغضب لله فلا سعت بي قدم، ولا غمضت لي عين.
أيها المسلمون، والمهاجرون إلى المدينة لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء، والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق، إنهم جميعًا يريدون الاستضاءة بنور الوحي والحصول على رضوان الله تعالى، وهل الإنسان إذا جحد ربه وتبع هواه إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم؟!
أيها المسلمون، لقد كانت هجرة الحبيب محمد إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم تعني نشأة أول دار للإسلام إذ ذاك على وجه الأرض، وقد كان ذلك إيذانًا بظهور الدولة الإسلامية بإشراف قائدها ومُنشئها الأول محمد عليه الصلاة والسلام، ولذا فقد كان أول عمل قام به الحبيب محمد أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة المتمثلة في بناء المسجد والمؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة، وكتابة وثيقة حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم، وأوضحت علاقتهم مع غيرهم.
أما بالنسبة للأساس الأول فقد بادر الرسول الكريم إلى بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض ودسائس الحياة الدنيا، وتم بناء المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصى، وسقفه الجريد، وأعمدته جذوع النخل، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه.
ولكن أيها المسلمون، هذا البناء المتواضع هو الذي ربى ملائكة البشر، مؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذِن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من أمّ به، يتعهدهم بأدب السماء وأخلاق القرآن من بزوغ الفجر إلى غسق الليل.
والمسجد كان ولا يزال منارًا للهدى ومشعلاً للنور وطريقًا إلى الخير وسبيلاً للعرفان، إنه المدرسة الجامعة لكل معاني الخير، والموجه إلى أسمى المبادئ وأمثل القيم، يتلاقى فيه أبناء الإسلام ليتفقهوا أسرار شريعتهم، ويتدارسوا ما فيه خيرهم وصلاحهم، فمن فوق منبره وفي رحاب ساحاته يتيسر لهداة الأمة أن يعبئوا مشاعرها، ويوقظوا ويصيغوا أرواحها، ويوجهوا موكبها الوجهة الصالحة المثمرة.
أيها المسلمون، إن الناس اليوم لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة، استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد الشاهقة المزخرفة، أما أسلافنا وما أدراكم ما أسلافنا فقد انصرفوا عن ذلك إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام.
أما بالنسبة للأساس الثاني، فقد آخى الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة، ولم يكن ما أقامه الحبيب محمد من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، إنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين.
وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض سعد على عبد الرحمن أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها.
ولم يكن سعد بن الربيع منفردًا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن، بل كان هذا شأن عامة الصحابة في علاقاتهم وتعاملهم بعضهم مع بعض.
أيها المسلمون، أما الأساس الثالث فهو كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم، وهذا الأساس هو أهم ما قام به الرسول مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة، ومن هنا تسقط دعوى الذين يزعمون أن الإسلام ليس إلا دينًا، قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء، وهو أكذوبة واضحة كان يقصد منها محترفو الغزو الفكري والمستعمرون أن يقيدوا بها الإسلام، كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات الإسلامية، وحتى لا يصبح له شأن يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى، إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام دينًا لا دولة، وعبادات مجردة من غير تشريع ولا قوانين.
كما أن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة ومبدأ التسامح التي اتسمت بها معاملة النبي لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، ولكن حينما ساءت النوايا لم يتحقق شيء من ذلك.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|