لقد انتهى موسم الحج، ورجع حجاج بيت الله الحرام إلى بلادهم، سالمين غانمين، وقد أدوا حجهم، ولله الحمد والمنة، إلا من قدر الله جل وتعالى له أن يموت في طريقه هذا العام، فأسأل الله جل وعز، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يقبلهم عنده، وأن يتغمدهم برحمته، ويسكنهم فسيح جناته.
أيها الأحبة الكرام، وقفة مع حديثي أبي هريرة رضي الله عنه، الأول: رواه البخاري ومسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه))، والثاني: رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
الذي يحج أيها الأحبة، حجاً مبروراً، وذلك بأن يتحرى الصواب في حجه في أداء أركان وواجبات الحج، ويتحرى السنة، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)). وأيضاً يبتعد كل البعد عن الرفث والفسوق والجدال، وكان قبل ذلك تحرى الحلال في زاده وراحلته ونفقته، هذا الإنسان يرجع وكأنه ولد اليوم، طاهراً نقياً من الذنوب والمعاصي، ويرجع وقد وعد بالجنة، ليس له جزاء إلا الجنة. تخيلوا حاج يرجع بهذه النفسية، وبهذا الشعور، يمشي على الأرض وكأنه من أهل الجنة، وهو طاهر كملك من الملائكة، ما عليه خطيئة، لو سألنا سؤالاً، كم يقدر عدد الحجاج؟ قرابة المليونين، ينقصون قليلاً أو يزيدون.
دعونا من حجاج الخارج، سأعود إليهم بعد قليل، حجاج الداخل، كم عددهم؟ لا أظن أنهم ينقصون عن المليون، لاأكون مبالغاً، قلْ: إنهم نصف مليون، خمسمائة ألف حاج من هذه البلاد، وهذا عدد قليل، لكن لنفترض هذا، هل تدرون ماذا يعني هذا الرقم؟ إنه يعني نصف مليون حاج موعود بالجنة، إنه يعني خمسمائة ألف حاج رجع كيوم ولدته أمه طاهراً نقياً من الذنوب والخطايا والمعاصي، إننا نسأل أين هم؟ وهل فعلاً نخرج سنوياً من موسم الحج بهذا العدد، وبهذا المستوى، من تكفير الخطايا والآثام، مجتمع يضخ فيه سنوياً قرابة المليون شخص طاهر، قد غسل عن نفسه كل ذنب وخطيئة، ألا يفترض في هذا المجتمع أن ينقلب رأساً على عقب؟ وعلى أقل تقدير أن تبدوا آثار التغيير. كم هي المكاسب التي يجنيها مجتمعنا لو أن حجاجه رجعوا بما ذكرنا، يرجع كل حاج، رجلاً كان أو امرأة، عنصراً مستقيماً في نفسه، من الطبيعي أن هذا الصالح سيؤثر في غيره، يرجع كل حاج عنصراً مستقيماً بعد الحج. الذي كان يدخن قبل الحج، بعد الحج ترك التدخين، الذي كان يتعامل بالربا، ترك الربا وبدأ يتحرى الكسب الحلال، الذي كان يفعل الفواحش، تاب إلى الله عز وجل وترك فحشه، الذي كان يظلم الناس بأي نوع من أنواع الظلم، سواء بأكل أموالهم، أو النيل من أعراضهم، أو إيذائهم، أو أي شكل أو لون من أنواع الظلم، ترك الظلم، وقُلْ مثل هذا الكلام على جميع الأخطاء والمخالفات، والمنكرات التي كان يفعلها الحجاج قبل حجهم، كم هي المكاسب التي سنجنيها من الحج سنوياً لو أن هذا حصل، وقل مثل هذا الكلام في حجاج الخارج، أيضاً أولئك رجعوا إلى بلادهم، وقد غسلوا في أرض عرفات عن أنفسهم كل جرم وذنب وخطيئة، ورجعوا عناصر فعالة في دولهم وقدوات صالحة في مجتمعاتهم، كم هي المكاسب التي ستجنيها الأمة. يرجع الحجاج بهذا المستوى من النقاء، وكل يقوم بدوره، الأب الحاج في بيته بين أولاده، الموظف الحاج في مكتبه مع زملائه، المدرس الحاج في مدرسته مع طلابه، التاجر الحاج في دكانه مع زبائنه، وكل في موقعه الذي يمارس فيه حياته اليومية، والله إنها لمكاسب جمة، ولو كان نصف أو ربع ما نطلبه يتحقق، لحسب أعداء الشريعة لهذا التجمع السنوي ألف حساب، لكنهم يعلمون أنها وفود تذهب وتعود،ونفقات تصرف، وجهود وطاقات، ولا يستثمر هذا التجمع حق الاستثمار، الذي يفترض فيه أن يرهب أعداء الله عز وجل. ليكن لنا حديث خاص، دع عوام الناس، خذ خواصهم من الدعاة وطلاب العلم، الذين يدركون هذه القضايا، أين هم بعد عودتهم من الحج، ألا يفترض أن جهودهم تتضاعف؟ وقدراتهم تزيد، وعطاءهم ينمو، لماذا؟؟ لأن سلاسل وأغلال الذنوب والخطايا يفترض أنهم قد تحللوا منها، في تلك البقاع الطاهرة، لكن ما هو المشاهد، وما هو النتاج الحقيقي لعودة الحجاج في الغالب؟ المشاهد أن الخواص يرجع كل إلى وضعه الطبيعي الذي كان عليه قبل الحج، صاحب الفتور إلى فتوره، وصاحب النصف مشارك إلى نصف مشاركته، والنشيط قد يزيد قليلاً، أما عوام الناس فالله المستعان، يعود صاحب المعصية إلى معصيته، وصاحب الفسق إلى فسوقه، وصاحب الظلم إلى ظلمه، وكأن الحج بالنسبة لهم كانت رحلة أو نزهة.
أيها المسلمون، ماذا تعني هذه الخلاصة التي خرجنا بها، وماذا يدل عليه نتاج الحج؟ إنه يعني قضية واحدة لا ثاني لها. إن حجنا والله المستعان ليس مبروراً، قد شابه شوائب كثيرة، لم نحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم، فيه نواقص وخلل. قد دخله ربما الرفث والفسوق والجدال. لم نرجع من حجنا كما ولدتنا أمهاتنا، رجعنا من الحج بنفس الذنوب والآثام التي ذهبنا بها، وربما خففنا شيئاً قليلاً، أما البقية فهي محملة على ظهورنا ذهاباً وإياباً.
إنها قضية تستحق العناية، وتستحق التأمل، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بأن هذه الأمة لو صدقوا فإنه لن يغلب إثني عشر ألف من قلة، فما بالكم بتجمع سنوي يحشد ما يقارب مليوني مسلم، أليس من المفترض في مثل هذا التجمع أن يهز العالم، ويرهب القريب والبعيد.
فيا حبذا لو استثمر علماء الأمة، وأهل الحل والعقد فيها، ووجهاء وعقلاء الناس من كل جهة، والدعاة وطلاب العلم، بجميع مستوياتهم وطاقاتهم، واستفيد من هذه الحشود وهذه القدرات، في محاولة صبها في بوتقة الإسلام العام. إنه لا بد أيها الأحبة من الاستفادة من كل طاقة، ومن كل رجل مهما كان عمله، وأينما كان موقعه، خصوصاً في مثل هذه الفترات التي تمر بها الأمة. جراحات الأمة كثيرة، وآلامها عميقة، وأكلة القصعة كثر، والذي كان ينافق صار الآن لا ينافق، والذي كان يفعل ما يريد أن يفعله في ظلمة الليل صار يفعله في وضح النار.
فإذا لم نستفد ـ أيها المخلصون ـ من كل طاقة، ونستفيد من كل تجمع، ونحاول أن نستغل كل مشروع، فإن الجرح يصير جراحات، والألم آلام. إنها خسارة وأية خسارة أن يمر موسم كموسم الحج، ونخرج منه كما دخلنا. هذا نحن، أما بقية بلاد الإسلام فكما قال الشاعر:
ففي أرض أفغان الشـهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
وفي مصر آنّاتٌ ووطـأة غاشم وليـل وآهـات ودمـع وأقبـر
وفي دار هارون الرشـيد زلازل وآثـار مجـدٍ أحرقوه ودمـروا
حنانيـك يا بغداد صبرا فربمـا تباح لهذا الكفـر سـيل مطهـر
لماذا دموع الحزن لست وحيدة وأنت على الأيـام عز ومفخـر
فكل بـلاد المسـلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهـى وتأمر
تماثيل لكـن نـاطقات وإنما بلاء البـلاد النـاطق المتحجـر
فنسأل الله جل وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً. إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله ..
|