أما بعد: وبعد صلح الحديبية تفرّغ النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته، فبعث الرسل إلى الملوك والولاة في شمال الجزيرة وغربها، وجنوبها وشرقها، يدعوهم إلى الإسلام لله رب العالمين لا شريك له، وترك العباد الذين تحت أيديهم ليُسلموا لله ويتّبعوا رسوله ويخرجوا من الظلمات إلى النور.
وكان من بين هؤلاء الرسل: الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى هرقل ملك الروم بالشام، وخرج الحارث رضي الله عنه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزل مؤتة في شمال الجزيرة عرض له عامل قيصر على الشمال شُرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطاً ثم قدّمه فضرب عنقه ليموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابه همّ عظيم لقتل رسوله، إذ كان الحارث رضي الله عنه الرسول الوحيد من بين رسله الذي تعرض للقتل والأذى وكانت الرسل لا تقتل. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجمع المسلمين وأخبرهم الخبر، ثم جهز جيشاً قِوامه ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة، انتصاراً لهذا الصحابي الجليل الذي قتل، ولأن دم المسلم في الإسلام نفيس. ولما تجهّز الجيش وعزم على الرحيل قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقد لهم لواءً أبيضاً ودفعه إلى زيد بن حارثة رضي الله عنه وأمّره على هذا الجيش ثم قال: ((إن أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس)). وأوصاهم عليه الصلاة والسلام أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هنالك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغيروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا كبيراً ولا فانياً ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرةً ولا تهدموا بناءً)).
وهذه من أبرز تعاليم الحروب في الإسلام فإن القتال في الإسلام إنما شرع لنصرة المستضعفين والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، لا إلى التخريب والاعتداء. ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس يودّعون القواد الثلاثة أمراء جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابةٌ بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آيةً من كتاب الله تعالى يذكر فيها النار: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71]، فلست أدري والله كيف لي بالصدر بعد الورود. ثم قال:
لكنّنــي أسـأل الله مغفـرة وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنةً بيـدي حرّان مُجهـِزةً بحربـةٍ تُنفِـذُ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مرّوا على جَدثـي أرشد الله مـن غـازٍ وقد رَشدا
وخرج الجيش من المدينة، وخرج معهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في مجموعةٍ من أصحابه رضي الله عنهم مشيّعاً لهم حتى بلغ ثنيّة الوداع، ثم ودّعهم والدموع تفيض من عينيه صلوات الله وسلامه عليه، ومن عيون أمرائه الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان آخر من ودّعه عبد الله بن رواحة، ودّعه مُجهَشاً بالبكاء وهو يقول:
فثبّـت الله ما آتـاك من حسـنٍ تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصروا
إني تفرّسـت فيك الخيـر أعرفه والله يعلـم أن مـا خانني البصـر
أنت النبي ومـن يُحـرم شفاعتَه والوجه منك فقد أزرى بـه القـدر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنت فثبّتك الله يا ابن رواحة)). قال هشام بن عروة رحمه الله: فثبّته الله عز وجل أحسن الثبات فقتل شهيداً وفُتحت له الجنة فدخلها.
وتحرك الجيش الإسلامي إلى الشمال حتى نزل مُعان من أرض الشام، فبلغتهم الأخبار بأن هرقل ملك الروم قد نزل أرض مآب من أرض البلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم إليهم من نصارى العرب مائة ألفٍ أخرى، يقودهم مالك بن زافلة النصراني. فلما علموا بذلك أصابهم من الغمّ والحزن ما الله به عليم. ولكم أن تتصوروا الموقف! ثلاثة آلاف يقفون مقابل مائتي ألف من الروم وأعوانهم، أكبر قوة على وجه الأرض آنذاك.
اجتمع المسلمون وتشاوروا في أمرهم، وأقاموا ليلتين وهم يفكّرون في الأمر، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبرُه بعدد عدوّنا وما أعدوا لنا، فإمّا أن يمددنا بمدد من عنده، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يشجع الناس ثم قال: (أيها الناس! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون ـ يعني الشهادة ـ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمن الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌ وإما شهادة).
فتشجّع المسلمون، ومضوا لقتال عدوهم حتى نزلوا مؤتة بأرض الشام، وكان الروم قد نزلوا قريباً منهم، واقترب الفريقان، والتقى الجمعان، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ المسلمين، وبدأت المعركة واعتصم المسلمون بالله الواحد الأحد، الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وطلبوا المدد والنصر من القويّ العزيز سبحانه، الذي ينصر عباده المؤمنين في الحياة الدنيا ويـوم يقوم الأشهاد يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [غافر:52].
معركةٌ عجيبةٌ غريبةٌ في دنيا الواقع، تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، حيث يقف ثلاثة آلاف مسلم أمام مائتي ألفٍ من الروم وأحلافهم، تستغربها موازين البشر وتعجز عن إدراكها العقول. ولكن لا عجب فإذا كان الله عز شأنه مالك الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم؟ وممن يخافون والناصرُ هو الله؟ ٱلئَـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:66].
أخذ الراية زيد بن حارثة أولُ الأمراء الثلاثة، مولى رسول الله وحِبّه، فقاتل قتالاً مريراً وقدّم من ضروب البسالة والشجاعة ما يعجز عنه الوصف، وبينما هو كذلك أصابه رمح من رماح الأعداء، فخرّ شهيداً رضي الله عنه. فتقدم جعفر بن أبي طالب واستلم الراية ودافع عنها كدفاع صاحبه وهو يقول:
يا حبـّذا الجنة واقترابها طيبـةً بـارداً شـرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافـرةً بعيـدةً أنسـابها
علـيّ إذ لاقيتهـا ضِـرابها
فلما اشتد القتال نزل جعفر رضي الله عنه عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم يقاتل فقطعت يده اليمنى فاستلم الراية بيده اليسرى فقطعت فاحتضنها بعضديه لئلا تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهزم المسلمون، فلم يزل رافعاً لها حتى ضربه روميّ ضربةً قطعته نصفين. روى البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (فالتمسنا جعفراً فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين طعنةً ورميةً وكانت كلها فيما أقبل من جسده). وتلك شجاعة فذّة وبطولةٌ نادرة وإقدام لا يتكرر إلا قليلاً. ثم تقدم الأمير الثالث عبد الله بن رواحة فاستلم الراية وكاد أن يرجع وتردد بعض التردد، ثم ارتجز بأبياتٍ جميلةٍ، وتقدم وهو يقول:
أقسـمتُ يا نفـسُ لتنزِلنّـه طـائعــةً أو لتُكرهِنّـه
إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة ما لي أراكِ تكرهين الجنة
قـد طالما مـذ كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفةٌ في شنّة
ثم نزل للقتال فأتاه ابن عم له بعظم من لحم، وقال: اشدُد بهذا صُلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه منه وانتهس منه نهسةً ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ومات الأمراء الثلاثة، استشهدوا جميعاً وارتبك الناس واختلطوا فتقدم ثابت بن أرقم العجلانيّ وأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يمض على إسلامه خمسة أشهر بعد، فقد أسلم بعد الحديبية ولكنّها الرجولة التي قال الله تعالى عنها: مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) رواه البخاري.
استلم القيادة خالد بن الوليد فنظّم الجيش إلى ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، وهجم على الروم فلما رأوا هذا المشهد في الجيش المسلم قذف الله في قلوبهم الرعب وقالوا: قد جاء للمسلمين مدد من المدينة، فاستطاع خالد رضي الله عنه بهذه الخطة الحربية أن يخلّص الجيش المسلم من عدوه وأن يحقق النصر المعنوي العظيم للقلة المسلمة.
روى البخاري في صحيحه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحةٌ يمانية". وانتهت المعركة وعاد المسلمون ينعمون بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ [الروم:5].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة يشاهد المعركة كرامة من الله عن طريق الوحي، فجمع المسلمين وأمر منادياً أن ينادي فيهم، فاجتمعوا ثم أخبرهم عن إخوانهم المجاهدين فقال: ((أخذ الراية زيدٌ فقاتل حتى قتل شهيداً ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل شهيداً)) ثم صمت صلى الله عليه وسلم حتى تغيّرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون فقال: ((ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً)). ثم قال: ((لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه فقلت: بم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد بعض التردد ثم مضى. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله يعني خالد بن الوليد، حتى فتح الله عليهم)) رواه أحمد.
وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان بالدموع يتفقد أسر الشهداء الثلاثة، تقول أسماء بنت عميس زوج جعفر رضي الله عنهما: أتاني رسول الله وقد فرغت من اشتغالي وغسّلت أولاد جعفر ودهنتم فأخذهم وشمهم واحتضنهم ودموعه تسيل من عينيه، فقلت: يا رسول الله! أبلغك عن جعفرٍ شيئٌ؟ قال: ((نعم! لقد أصيب هذا اليوم)). ثم عاد إلى أهله وقـال: ((اصنعوا لآل جعفرٍ طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم)) رواه أحمد وغيره.
وعاد الجيش إلى المدينة واستقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم يحيونهم على هذه الفتح العظيم ضد أكبر قوة عرفها العالم آنذاك.
أيها المسلمون، هذه بعض أخبار تلك الغزوة العظمى التي نصر الله عباده فيها نصراً مؤزراً وأرهبت الروم في شمال الجزيرة العربية وقذفت الرعب في قلوب الذين كفروا في جزيرة العرب فصاروا يحسبون للمسلمين ألف حساب، وقدِمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها تتحالف معه وزاد عدد الذين صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً.
بارك الله لي ولكم …
|