أما بعد: جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما بمكة، في تلك البقعة المقفرة، والأرض الموحشة، وبين الجبال المُصْمَتَة، بوادٍ غير ذي زرع، ثم مضى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا. رواه البخاري قالت ذلك بكل صدق وتوكل على الله. إذن لا يضيعنا، فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَـٰفِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ [يوسف:64].
أيها المسلمون، تبدأ رحلة الحج في أعماق الزمن منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط عليهم السلام، كما قال تعالى: فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّى إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ [العنكبوت:26].
وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذي حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سبباً في إهدائها جارية لخدمتها ألا وهي هاجر، لتبدأ قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق.
حيث رجع إبراهيم عليه السلام مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقراً لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها هاجر، لعل الله أن يهبه منها ولداً، فكان، وولدت هاجر إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد سارة إسحاق عليه السلام. فغارت سارة من هاجر حسب طبيعية النساء ولم تُطِقْ رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها، فكان ذلك سبباً في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة. وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهمّ بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى، فتعلقت به هاجر وهي تقول: إلى من تَكِلُنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا الله. وانصرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصيبة أوشك الرضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها لولا فضل الله ورحمته. وهل يخيب من رجاه وهل يضيع من تولاه؟
ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طافوا بالبيت العتيق. ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله.
رجع إبراهيم عليه السلام بعد مدة من الزمن بعد أن سُكنت مكة وشب إسماعيل فقال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال وتُعينني قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هنا، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة، ويرفع إبراهيم القواعد من البيت، وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. وبعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
ونادى إبراهيم في الناس: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
وقد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج كل مكان وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات، ويتلى في المحاريب، وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا، وعلى سنن الأنبياء والمرسلين، فإن هذا البيت كان وسيبقى مثابة للناس وأمناً منذ طاف به إبراهيم أبو الحنفاء، الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض فدبت الحياة في هذه الأرض القاحلة الجرداء، وأجاب الله دعاء نبيه، فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم، وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضاً مباركة، ومَحَطَّ أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
عباد الله، إن الناظر إلى مكة في موسم الحج يرى عجباً، ويزداد لوعةً وشوقاً، وهو يتأمل مواكب الإيمان، وقوافل عباد الرحمن، جاؤوا عن رغبة وطواعية، ألسنتُهم تلهج داعية، وأعينهم باكية، تسأل الله الرحمة والعافية، هديرهم تكبير، حديثهم تسبيح، نداؤهم تلبية، دعاؤهم تهليل، مشيهم عبادة، زحفهم صلاة، سفرهم إلى الله والدار الآخرة، وغايتهم رضوان الله ومغفرته، تركوا الديار والبلاد، والأهل والأولاد، واجتازوا الصعب والمهاد، ترى مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة لله رب العالمين.
وتمر السنون، وتتوالى القرون، ووفود الله يتزايدون في لقاء إيماني واجتماع سنوي يقدمون من أماكن بعيدة، وبلدان سحيقة، ومن كل فج عميق، إلى وادٍ غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: ((لبيك اللهم لبيك)). والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفاً وفضلاً.
عباد الله، حج المصطفى صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كل فج، لتنال شرف الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة، نزل قول الله تعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك فقال: (إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان) وأعظِم به من (فقه عمري)؛ لأنه استشعر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت: (حجة الوداع).
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع). وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) رواه الدارمي.
أيها الإخوة المسلمون، لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقل خطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبو الحنيفية، ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [البقرة:127]، كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتُطرِبُ الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديان.
ويقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً وتتحدر على خده الشريف المشرق .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل موطن: ((خذوا عني مناسككم)) رواه مسلم.
((خذوا عني مناسككم)): وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، قال الله تعالى: فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
((خذوا عني مناسككم)): وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتقوا الله فيهم، ويسلكوا بهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إحراماً وتفويجاً، إفاضةً ومبيتاً، طوافاً وسعياً، نصحاً وإرشاداً، بيعاً وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة، بالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.
((خذوا عني مناسككم)): وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج، ليعلم أن الحج نسك وعبادة، وموسم خير وطاعة، (فعرفة) و(منى) و(مزدلفة) و(أم القرى)، يترفّع فيها الحاج وكذا في كل مكان وزمان، يترفّع عن المنازعات والشعارات، أو الدعوى بدعوى الجاهلية وإثارة النعرات، ويحذَر التهم الباطلة وترويج الإشاعات، فهذه أرض المشاعر، وحريّ بالمسلم أن يحقق فيها أطيب الأخلاق والمشاعر. إنها حَجّة الوداع، وما أدراك ما حَجّة الوداع:
أحبتـي عـاد ذهنـي إلى زمــنٍ معظمٍ في سـويدا القلـب مستطـر
كأننـي برســول الله مرتديــاً ملابـس الطهـر بين الناس كالقمر
نـور وعـن جانبيه من صحـابتـه فيـالـقٌ وألـوف النـاس بالأثـر
ساروا برفقة أزكى مهجةٍ درجــت وخيـر مشـتملٍ ثوبــاً ومؤتـزر
ملبيـاً رافعـاً كفيــه فـي وجل لله فـــي ثـوبِ أوّابٍ ومفتقـر
مُرنمـاً بجـلال الحـق تغلبـــه دموعـه مثل وابل العـارض المطـر
يمضي ينـادي خذو عني مناسككم لعـل هـذا ختـام العهـد والعمُـر
وقـام فـي عرفـات الله ممتطيـاً قصـواءه يالـه مـن مـوقف نضِر
تأمل الموقف الأسـمى فمـا نظرت عينــاه إلا لأمــواج من البشـر
فينحنـي شــاكـراً لله منّتَــه وفضلـه من تمـام الديـن والظفـر
يشـدو بخطبتـه العصمـاء زاكيةً كالشهد كالسلسبيل العـذب كالدرر
مجليـاً روعة الإسلام فـي جمـلٍ من رائع من بديع القـول مختصــر
داعٍ إلى العدل والتقـوى وأن بهـا تفاضل الناس لا بالجنـس والصـور
مبينـاً أن للإنسـان حرمتـــه ممرغـاً سـيّء العـادات بالمــدر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا مُمَتَّعُ القلـب والأسـماع والبصـر
وأنبـري لرســـول الله ألثُمُـهُ علـى جبيـنٍ نقـي طاهـر عطـر
أقبِّل الكف كف الجـود كم بذلت سحّاء بالخـير مثـل السلسـل الهدر
ألـوذ بالرّحـل أمشـي في معيته وأرتـوي مـن رسـول الله بالنظـر
أُسّـر بالمشي وإن طال المسير بنـا وما انقضى من لقاء المصطفى وطـري
أمـا الرداء الـذي حج الحبيب به يا ليته كفـن لي فـي دجـى الحُفـر
يا غافـلاً من مـزاياه وروعتهـا يَمّـم إلى كتُـبِ التـاريخ والسـير
يا رب لا تحرمنـا مـن شفـاعته وحوضه العذب يـوم الموقف العَسِـرِ
بارك الله لي ولكم ..
|