أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَـٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـٰتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ [البقرة:125-129].
معشرَ المسلمين، بيتُ الله الحرام أفضلُ بُقعةٍ على وجه الأرض، اختارها الله من بين سائر البقاع، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68]. اختاره الله حرمًا لنبيّه وموضعًا لأداء نُسُكِه، وأوجب على المسلمين على كلّ مسلم قادر زيارةَ هذا البلد الأمين في عُمره مرّة، زيارتَه والطواف به، وألزم المسلمين احترامَه، فلا يدخلونه إلا خاضعين متذلِّلين متجرّدين من لباس الدنيا تعظيمًا لهذا البيت، فجعل أداءَ النسُك ركنًا من أركان الإسلام، فمن أتاه حاجًّا أو معتمرًا فلا يدخله إلا محرمًا من المواقيت التي حدّدها الشارع لذلك.
أيها المسلم، جعل الله هذا البيتَ مثابةً للناس، مثابةً لهم بمعنى: يثوبون إليه ويقصدونه ولا يقضون منه وطَرًا، كلما أتوه [تأكّد] تعلُّق قلوبهم به وازدادت محبتهم له، وجعله الله آمنًا، مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا، جعله الله حرمًا آمنًا، وأوجب على كلّ مسلم احترامَ أمن هذا البلد، أوجب على كلّ مسلم أن يحترم أمن هذا البلد وأن يعرفَ لهذا البلد مكانه وفضله، فهو حرم الله، مهوى أفئدةِ المسلمين، فلا بدّ أن يكون حرمًا آمنًا، فأوجب الله احترام أمنه، وجعل ذلك دينًا يَدين العبد بذلك لربه، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء [القصص:57]. والخليل عليه السلام عندما فرغ من بناء البيت سأل الله لهم هذه النعمة فقال: رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ [البقرة:126]، فسأل الله لهم الأمنَ قبل أن يسأله لهم الرزقَ، ولهذا جاء أمنُه عامّا للإنسان والحيوان وحتى الطير، يقول صبيحة اليوم الثاني من أيام الفتح خاطبًا في الناس مبيِّنًا لهم فضلَ هذا البلد الأمين: ((إن الله حرم هذا البلد يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتَقط لُقطته، ولا يُختلى خلاه))، وفي لفظ قال: ((وإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أحلَّها لنبيه ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتُها كما كانت)).
هكذا الإسلام يُعظِّم أمنَ هذا البيت، ويوجب على المسلم احترام أمنه، ويخبرنا ربنا تعالى أن من همّ في هذا البيت بمعصية فإن الله يُعاجله بالعقوبة بمجرّد همّه وإن لم يفعل: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ فمجرّدُ إرادة الإلحاد فيه بالظلم والعدوان فيه فإنّ الله يذيقه العذابَ الأليم، ذلك أنّه أخلّ بأمن هذا البلدِ الأمين. وقد جعل الله أمنَ هذا البلدِ وقصدَه بالحجّ والعمرةِ سببًا لقيام الناس وأمنِهم من العذاب العظيم: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]، فما دام هذا البيت يُزار حجًّا وعمرة فالخلق في أمان من العذاب العظيم؛ لأنّ وجودَ هذا البيت في أمن واستقرار سببٌ لأمن العالم كلِّه.
أيّها المسلمون، لقد خصّ الله هذا البيتَ بخصائص عظيمة، فأوّل خصيصة له أنّ الله جل وعلا افترض على كلّ مسلم قادر زيارته والطوافَ به، فليس على بقعة الأرض موضعٌ يُشرع أن يُطاف به إلا بيت الله الحرام، ولا موضعٌ يُشرع تقبيله أو استلامه وتُحَطُّ الخطايا والأوزار إلا الحجر الأسود والركن واليماني، فإن الحجر الأسود يُشرَع تقبيله مع الإمكان أو استلامه، والركن اليماني يُشرع استلامُه، وما سوى ذلك فلا يجوز، إذ الطواف بقبورِ الأولياء والأنبياء ونحوهم شركٌ أكبر وذنب لا يُغفَر، لأنه طواف وعبادةٌ لغير الله، أما طواف المسلمين ببيت الله فهي عبادة لله، فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
من خصائص هذا البلد الأمين أنه أول بيت وُضع في الأرض لعبادة الله، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ [آل عمران:96، 97].
ومن خصائص هذا البلد الأمين أنه قبلةٌ للمسلمين في عموم الأرض، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فهو قِبلة المسلمين في أيّ بقعة من بقاع الأرض.
ومن خصائصه أنّه خير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله، لما أراد النبيّ الهجرةَ من مكّة إلى المدينة وقف قليلاً عند الحزوَّرة وقال: ((والله، إنّك لخير أرض الله، وإنّك أحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت))، وفي لفظ قال: ((ما أطيبَك وما أحبَّك إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما سكنتُ بلدًا غيرك)) صلوات الله وسلامه عليه.
ومن خصائص هذا البلد الأمين أن الصلاة فيه مضاعفةٌ بمائة ألف صلاة فيما سواه، يقول : ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام خير من صلاة في مسجدي بمائة مرة)).
أيها المسلمون، ومن خصائصه أنّ الله افترض زيارته على المسلم في عمره مرّة إن كان قادرًا، وما سواه فإنّ زيارته مستحبّة أو مباحة، أمّا البلد الأمين فمُختصّ بوجوب الزيارة في العمُر مرّة؛ لأن ذلك أحد أركان الإسلام.
أيها المسلمون، ومن خصائص هذا البلد الأمين أنّ العمرةَ أو الحجّ سبب لحطّ الخطايا ومحو السيئات ومضاعفة الأجور، يقول : ((العمرة إلى العمرة مكفِّرات لما بينهنّ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، وقال أيضًا: ((تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور جزاء سوى الجنة)).
أيّها المسلم، إنّ هذه الخصائص لبيت الله الحرام خصائص شرعية، فهو بلد الله، أقسم الله به في كتابه العزيز: لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ [البلد:1]، وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ [التين:3]. هي أم القرى فلها على كلّ القرى تميُّز، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7].
أيّها المسلم، فاعرف لهذا البلد أمنَه، واعرف له فضله، واحترم أمنَه، وإياك والإلحادَ فيه، اقصده حاجًّا أو معتمرًا ابتغاء وجه الله، وتقرّب إلى الله فيه بصالح العمل، واعرف أن مكانه مكانٌ عظيم ذو فضل وشرف، فإياك والإخلالَ بذلك بمعاصي الله القوليّة أو الفعليّة، وأعظمها الشرك بالله ودعاء غيْر الله وقصد غير الله وتعلّق القلب بغير الله، فكلّ ذلك مما ينافي إسلامَك. إن هذا البيت أقيم على توحيد الله، وأُسِّس على عقيدة التوحيد الخالصة لله جل وعلا. إنّ الله تعالى اختار هذا البلدَ الأمين ليكون منطلقًا لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فهو وُلد بمكة، وبُعث بها، وأقام بها حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، ومع هجرته إلى المدينة بقي لهذا البيت مكانتُه، وبقي له فضله، فعلى المسلم أن يحترمَ ذلك ويعلم أن أيّ سيئة في الحرم فهي مضاعفة في قدرها، فحسنة بالحرم لها فضلها، وسيئة بالحرم لها عقوبتُها تناسب حالها.
فعَلى المسلم تقوى الله، وعليه أن يتقي الله ويعلمَ لهذا البلد أمنَه وحرمتَه، ويقف عند حدّه، ولا يسمح لنفسه بسوء في ذلك البلد الأمين، فإن هذا لا يصدر إلا عمّن في قلبه مرض ونفاق، أما المؤمن الذي يخاف الله ويرجوه فيعرف لهذا البلد أمنَه واحترامه، ويعلم أنه من أشرف البقاع وأفضلها، لا يليق فيه الظلم والعدوان، ولا انتهاك حرمته ولا الإخلال بأمنه ولا ترويع حاجّه ومعتمره، بل يعلم أنّ هذا من الكبائر، من العظائم الدالّةِ على أنّ في قلبه مرضًا، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فكيف تعرِّض نفسَك لعذاب الله وأنت تدري وتعلم فضلَ هذا المكان؟! أسأل الله أن يوفّق الجميع لما يحبّه ويرضاه.
وإنّ من نِعم الله على المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة أن هيّأ لهذا البلد من يقوم بخدمته، ويحمي أمنَه، ويرعى شؤونه بأمرٍ ما سبق للعالم بعد العهود الأولى وبعد الخلفاء الراشدين، من هذه النعمة العظيمة، فالحرم ولله الحمد آمن مطمئنّ، رغدًا سخاءً، توفّرت فيه النعم والخيرات والأمنُ والاستقرار والقيام بالواجب، فوفّقَ الله القائمين عليه لكلّ خير، وأعانهم على كلّ خير، وأدام على هذا البلد أمنه واستقراره وطمأنينته.
فالمسلم هكذا يحترم أمنَ هذا البيت، منطلقا من إيمانه بالله وإيمانه برسول الله وقبوله لشرع الله، فالأمن لهذا البلد الأمين واحترامه وتقديره أمر مطلوبٌ من المسلم، ولهذا روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يحلّ حمل السلاح بالحرم))، فنهى النبيّ عن حمل الأسلحة في الحرم لأنّ حملها ربّما يُسبِّب شرًّا، فنهى عن ذلك لتبقى واحةَ أمان واطمئنان واستقرار كما أراده الله. فعظّموا ما عظّم الله لعلّكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|