أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اليوم هو اليوم الثامن من ذي الحجة، توجّه فيه الرسول إلى منى، فصلّى بها الظهرَ والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وعندما ارتفعت شمس اليوم التاسع توجه للوقوف بعرفات، وألقى هناك خطابه المشهور حيث قال فيه: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا))، ثم حرم الثأر والربا، ثم قال في نهاية الخطاب: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، ألا فليبلغ الحاضر منكم الغائب)).
عباد الله، يوم عرفة يوم عظم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وأنزل فيه قوله تبارك وتعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
من فضائله أن الله تبارك وتعالى يباهي بالحجيج الملائكة، ويعمهم بالمغفرة، إنه يوم التجلي، يوم الرحمة، يوم من أيام الله الخالدة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((ما من يوم يعتق الله فيه من النار أكثر من يوم عرفة))، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعتقنا ويعتق رقاب آبائنا وإياكم جميعا من النار.
وأما ما يختص من الذكر فيه، فمنه التكبير بعد الصلوات المفروضات، وتبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، فهذه ثلاث وعشرون فريضة، تكبرون بعدها وتقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، لله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله العظيم وبحمده بكرة وأصيلاً.
وأما ما ورد من الأذكار عن المصطفى فيه فقوله عليه الصلاة والسلام: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن صومه مستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يستحب له صومه، ليتقوى على الدعاء، ولأنه ضيف الله تبارك وتعالى، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت صيام يوم عرفة؟ قال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والباقية)).
ومن هنا فيا أيها المؤمنون، يستحب صيام هذه الأيام من ذي الحجة، ولا مانع من صيام يوم عرفة إذا صادف يوم السبت، فالنية هي صيام يوم عرفة، وليس إفراد يوم السبت، وإذا جمع المسلم معه يوماً قبله فهذا أفضل كما ذكر الأئمة في كتبهم رحمهم الله، فقد قال الإمام النووي في كتابه (المجموع) ما نصه: "يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن كان قبله أو بعده معه لم يكره، ومعنى النهي أنه يكره السبت للصيام، لأن اليهود يعظمونه".
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ابن عباس رضي الله عنه وناس من أصحاب رسول الله بعثوه إلى أم المؤمنين أم سلمة يسألها: أي الأيام كان رسول الله أكثر صياماً لها؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، فذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت: صدق، إن رسول الله أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم)). فيتبين من هذا ـ يا عباد الله ـ أنه لا كراهة من صوم يوم عرفة إذا صادف يوم السبت، ويستحب صيام يوم الجمعة معه، وهو الأفضل، والله أعلم.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن من السنة إحياء ليلة يوم النحر، ويومها من أفضل الأيام عند الله، شرعه الله إظهاراً لشعائره، وإعلاء لذكره، وابتهاجاً بأداء طاعته عند البيت الحرام، فاحمدوا الله تبارك وتعالى على نعمة دينكم وأداء عبادتكم من قبل حجاجكم، فضحّوا بعد صلاة العيد كما أمركم ربكم بقوله: فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2]، أي: فصل لربك صلاة عيد الأضحى، وانحر الأضحية عقب الصلاة.
ويحسن هنا أن نذكركم أن صلاة عيد الأضحى ستقام بإذن الله تبارك وتعالى في المسجد الأقصى المبارك في الساعة السابعة وخمس دقائق تقريباً إن شاء الله.
يحسن أيضاً أن ننبه على بعض الأمور الفقهية التي تتعلق بالأضحية، فلا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة العيد لقوله : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد ضحيته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أدى السنة)).
ويستحب أن تقسم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم لك ولأهل بيتك، وقسم للفقراء والمساكين، وقسم تهدي منه أصدقاءك، وإذا أردت أن تعطي الفقراء من الأضحية فأعطهم أفضل الأقسام الثلاثة.
فنبينا عليه الصلاة والسلام جيء له بكبشين أملحين أقرنيين، فقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد))، وذبح الثاني وقال: ((اللهم إن هذا عن فقراء المسلمين))، فلا تحزنوا أيها الفقراء، فقد ضحى عنكم البشير النذير.
ودخل النبي آخر النهار بيته، وسأل زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها: ((كم بقي من الأضحية؟)) فقالت: تصدقنا بها كلها، ولم يبقَ إلا ذراعها، أتدرون ماذا قال لها النبي ؟ قال لها: ((بل كلها بقي إلا ذراعها، يا عائشة))، أي: كلها عند الله باقية إلا ذراعها التي سنأكلها.
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الحج مؤتمر سياسي كبير، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر في موسم الحج يجمع حكام الأقاليم، ويعقد معهم مؤتمراً يناقش فيه أحوال الأمة، يناقشهم في حل قضاياهم، فلماذا لا يجتمع حكام الأمة عند جبل عرفات ويناقشون قضايا المؤمنين على مائدة القرآن؟! لماذا لا يجتمع علماء المسلمين لحل مشكلاتهم في بيت الله الحرام؟!
ونشير هنا لأمور، أن أهم ما تمتاز به فريضة الحج هو أنه فريضة سنوية لمؤتمر إسلامي عام، يتدارس المسلمون فيه أحوال الأمة المسلمة، ويتخذون من القرارات ما تلتئم به جراحها، لكن هذا المعنى لم يعدّ له وجود في هذه الأيام.
ومما يؤسف له أننا نسير على مبدأ التوفير وهو الحج مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، لكن بعضنا تحولت الفريضة لديه إلى هواية وتجارة، يحرص على إشباعها مراراً وتكرراً، ومثل هذا السلوك يسّر لشركات السياحة فرصة كبيرة للمتاجرة، وبعضها لعمليات نصب واحتيال، ومثل هؤلاء الحجاج لم يعرفوا فقه الحج، فإن ما ينفق على حج ـ غير الفريضة ـ أولى به أن ينفق في أوجه الخير، ومنها صلة الأرحام ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وأُسر اليتامى والشهداء.
فهذا هو الإمام الجليل ابن المبارك كان في طريقه إلى الحج، فأبصر امرأة تبحث في كومة قمامة، فأناخ الناقة، وسألها عما تبحث، فأجابت: أبحث عما يسدّ رمق أيتامي الجياع، فتأثر وأعطاها ما معه من مال، وعاد أدراجه من حيث جاء، ولم يخرج لأداء فريضة الحج في ذلك العام. هذا هو فقه الإسلام، إن بعض الحجاج الهواة يستغلون لقب الحاج في التغطية على سلوكياته التي يرفضها الإسلام، وربما يخدع بلقبه البسطاء والعامة، ونسي أن عُمْر الخديعة قصير.
الحج ـ يا عباد الله ـ عبادة ربانية، سلوك وخلق، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، يعود صاحبه من هناك زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة.
اللهم أحينا على سنة نبينا، وتوفنا على ملة حبيبنا، واحشرنا في زمرته يا رب العالمين،. اللهم اشملنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة ماء هنيئة، لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|