.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

مناسك الحج

3539

فقه

الحج والعمرة

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

8/12/1424

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تهنئة الحجيج بمقدَمهم. 2- من ذكريات البيت العتيق. 3- حقيقة الحج. 4- إتمام النسك. 5- من دروس الحج. 6- ذكر الله تعالى ودعاؤه في الحج. 7- الدعوة والتعليم في الحج. 8- مقصد الوحدة في الحج. 9- صفة الحج.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]. وتقرّبوا إلى الله بطاعتِه لنيلِ ثوابِه، واجتنِبوا أسبابَ سخطه وعِقابه.

وبعد: حجّاجَ بيت الله، هنيئًا لكم وصولُكم بيتَ الله الحرام وشروعُكم في الحجّ وأركانِه العِظام، في وقتٍ تهفو إليه أفئدةُ الملايين من المسلمين، فبشرى لمن حجّ ابتغاءَ رضوان الله، بُشرَى لكم فالمولى يُغدِق عليكم الرحماتِ ويقول لكم غدًا في عرفات: انصَرفوا مغفورًا لكم.

يا لها من بُشرى حينَ يستشعِر الحاجّ قولَ المصطفَى : ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمّه)) رواه البخاريّ ومسلم[1]. يا لها من منحةٍ تطرَب لها النفوسُ المؤمنة، وتهونُ في سبيلها كلُّ المتاعب والصِّعاب.

حجّاجَ بيتِ الله الحرام، جِئتم صادقين مُلبِّين، استجابةً لدعوةٍ لم ينقطِع صَداها عبرَ القُرون، وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. جئتم في حَضرة هذا البيتِ العتيق الذي بناه نبيّان كريمان: إبراهيمُ وإسماعيل عليهما السلام، إبراهيمُ الذي صدَع بالتوحيد ونبذِ الشركِ حتى أُلقي في النار، فأنجاه الله ونصَره، وإسماعيلُ الذي استسلَم لربِّه وأسلَم عُنقَه للذّبح، فأنجاه الله ورفَع قدرَه. نبيّان كريمان وهبا حياتهما لله حتى اللّحظاتِ الأخيرة في النار وفي الذّبح. إذًا هذا البناءُ المعظَّم كعبةُ الله رمزُ التوحيد، ورمزُ الاستسلامِ لله في شرعِه وقدَره واتِّباع أمره ونهيه وامتثال حُكمِه. وهذا هو طريق النّصر الذي سلكَه الأنبياء والرسلُ وأتباعُهم؛ توحيدٌ وطاعة وسنّة واتباع، فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30، 31].

أيّها المسلمون، ضيوفَ الرحمن، إنّ مناسكَ الحجّ ليسَت مجرّدَ رسومٍ تُؤدَّى وأماكنَ تُؤتَى، بل الحجُّ مدرسةٌ وتربية وتاريخٌ وذكريات وعبادةٌ خالِصة تُفيض على الحاجّ نورَ الإيمان وثمرةَ العبادة. حين يسعى الحاجّ بين الصفا والمروة ويشتدّ سَعيًا في بطنِ الوادي يستحضِر الذُلَّ والفاقةَ لربّ العالمين، ويشعر أنّ حاجتَه وفقرَه إلى خالقِه كحاجةِ وفقر هاجرَ أمِّ إسماعيل في ذلك الوقتِ العصيب والكَرب العظيم؛ تسعَى لاهثةً مشفِقة وجِلةً تطلبُ الغوثَ من الله. يتذكَّر أنّ مَن كانَ يطيع اللهَ كإبراهيمَ عليه السلام فإنّ الله لا يضيعُه ولا يضيعُ ذرّيّتَه وأهله ولا يردّ دعاءَه.

أيّها الحاجّ الكريم، وأنتَ إذ أكرمَك الله تعالى بحجِّ بيتِه ويسَّر لك فاجتهِد رعاك الله في إتمامِ نُسُكك امتثالاً لقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وإتمامُه يكون بالإخلاصِ لله عزّ وجلّ والحِرص على اتِّباع السنة والاقتداءِ بالنبيّ الذي قال: ((خذوا عني مناسكَكم))[2] والإتيانِ بشرائطِ الحجّ وواجباته كاملةً، كما ينبغي السؤالُ عن الأحكام الشرعية قبلَ الشروع في العمل، فكم حاجٍّ يعبُد الله على جهلٍ، لا يتعلّم ولا يسأل، وهذا تهاونٌ بالنّسك، وكم من مُستفتٍ لو كان قبل العمل لزال عنه الحرَج، كما أنّ تتبُّع الرُّخَص والتهاونَ في أداء المناسك خذلانٌ ونَقص، فاتّقوا الله وأتمّوا الحجّ والعمرةَ لله.

ومن إتمام النسُك البعدُ عمّا يشوبه ويُنقصه، فالجدالُ والمراء والرفَث والفسوق والكِبر على عبادِ الله منهيّ عنها في القرآن، والبعدُ عنها مشروطٌ للقبول والغُفران، ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ [البقرة:197]. كما لا يجوز أن يُحوَّل الحجّ إلى ما ينافي مقاصدَه، فلا دعوةَ إلاّ إلى الله وحدَه، ولا شعارَ إلاّ شعار التوحيد والسنّة، ولا يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذيَ مسلمًا أو يروّع آمنًا أو يصرفَ الحجَّ لما يخالف سنةَ سيّد المرسلين ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].

في الحجّ ـ يا عبادَ الله ـ تربيةُ النّفوس على جُملٍ من معاني الخير ومكارم الأخلاق، كالصّبر والتحمّل والعَفو والصّفح والنفَقة والبذل والإحسان وتعليمِ الجاهل والدعوة إلى الخير ونفع المسلمين، وإنما شُرعت الطاعات والقُرُبات لعبادةِ الله تعالى، وفيها تهذيبُ النّفوس وتزكيتُها وترويضُها على الفضائِل وتطهيرها من النقائص وتحريرُها من رقِّ الشّهوات والرقيُّ بها لأعلى المقامات والكرامات.

في الحجّ تعلمُ أنّ ما كنتَ تراه ضروريًّا ترَف الدّنيا أنّه ليس بضروريّ، وأنه يُمكِن الاستغناء عنه، وأنّ تفاخرَ الناس وتعاليَ بعضهم على بعض هي مظاهرُ زائفة لأنّك اليومَ ترى الناسَ سواسية كما سيكون يومَ القيامة، فتقودك هذه المواقف والتأمّلات إلى أن تتغيّر نظرتُك للحياة، فتتعاملَ مع الدنيا بمقدار ما تستحقّه دون مبالغةٍ أو زيد. وكما اجتمعَ المسلمون اليومَ في مقصدِهم ومسيرتهم فإنّ هذا دليلٌ على إمكان اجتماع كلمتهم واتِّحاد صفّهم ووحدتهم، وهو المأمول بإذن الله عزّ وجلّ.

أيها المسلمون، وفودَ الرحمن، وذكرُ الله تعالى سمةٌ بارزةٌ في الحجّ، فهو إعلانٌ للتوحيدِ الذي هو شعار الحجّ: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك". وفي سُنن أبي داود والترمذيّ أن النبيَّ قال: ((إنما جُعل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله)) صححه الحاكم ووافقه الذهبي[3].

بل إنّ المتأمِّل في آيات الحجّ يجدها مقرونةً بذكر الله، كقوله سبحانه: وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ [البقرة:203]، وكقوله: فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ [البقرة:198]، وكقوله: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ [البقرة:200]. فعُجّوا بالتكبير وبذكر الله يرفعِ الله درجاتكم ويحطّ خطيئاتكم.

الحجّ تلبية وتكبير وذكرٌ لله ودعاءٌ وتضرّع، فالرابح من تضرّع لربّه وناجاه، وخضَع وتذلّل لمولاه دون أن يضيعَ وقته فيما لا يَنفع.

ولقد كان للنبيِّ مواطنُ يكثر فيها من الدعاء، حريٌّ بالمسلم الحرصُ عليها. منها يومُ عرفة، وبالأخصّ آخر النهار، وبعدَ صلاة الفجر بمزدلفة حتى يُسفِر جدًّا، وبعدَ رميِ الجمرة الأولى وبعد رمي الجمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاء فوق الصفا والمروة.

فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

لقد كان النبيّ يبرز للناس ويقول: ((خذوا عني مناسككم))[4]، فيعلّم الجاهل، ويجيب المستفتي. ألا وإن هذا الهديَ النبويّ منارٌ لطلبة العلم ليبصِّروا الناسَ بدينهم، ويرشدوهم للحقّ، ميسِّرين رافقين. إنّ الحجَّ فرصةٌ لأهل العلم لتوجيه مئاتِ الألوف من الأمّة لما ينفعهم، ومن أراد التوفيقَ فليلزَم هديَ النبيّ وسنته الذي قال كما في صحيح البخاري: ((إنّ الدينَ يُسر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة))[5].

ومِن مقاصدِ الإسلام العظيمة توحيدُ كلمة المسلمين وجمعُ قلوبهم ولمُّ شملهم، وفي الخيف من مِنى قال النبيّ : ((نضّر الله امرأً سمع مقالتي فبلَّغها، فربّ حاملِ فقهٍ غير فقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من أفقهُ منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلبُ مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه ابن ماجة بسند صحيح[6].

هذه بعضُ القبساتِ من الحجّ، حريٌّ بالمسلم أن يستنيرَ بها ليكون حجّه مبرورًا، ولينالَ الفوزَ الكبير الذي أخبر عنه النبيّ بقوله: ((من حجّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه)) رواه البخاري ومسلم[7]، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس جزاء إلا الجنة))[8].

جعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبكم مغفورًا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه مِن الآيات والذّكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.




[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).

[2] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).

[3] أخرجه أحمد (6/64، 75، 138)، وأبو داود في المناسك (1888)، والترمذي في الحج (902) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وقال النووي في المجموع (8/56): "إسناده كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (410).

[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).

[5] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: الدين يسر (39) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[6] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب: الخطبة يوم النحر (3056) عن جبير من مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/80، 82)، والدارمي في العلم (1/74-75)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126-127)، والحاكم (1/87)، قال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة، والمتن على حاله صحيح"، وله شاهد من حديث زيد بن ثابت ومن حديث أنس بن مالك ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2480).

[7] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).

[8] صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1773).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيّبًا كثيرًا، خلَق كلَّ شيء فقدّره تقديرًا، وجعَل الليلَ والنهار خِلفةً فمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين.

وبعد: أيها المسلمون، فهذا هو يوم التروية الثامن من ذي الحجة، وفي ضحاه يُحرم مريدُ الحجّ، ثم يذهب إلى منى، فيصلّي بها الظهر في وقتها قصرًا، والعصرَ في وقتها قصرًا، والمغربَ في وقتها، والعشاء في وقتها قصرًا، ويبيت بمنى تلك الليلة، فإذا صلّى بها الفجرَ وطلعت شمسُ اليوم التاسع توجّه إلى عرفات، وصلّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرًا، ثم يقف على صعيدِ عرفات مكثِرًا من ذكر الله تعالى، متذلِّلاً بين يدَيه، يسأله خيرَي الدنيا والآخرة، ويلحّ في الدعاءِ والرّجاء في ذلك الموقفِ العظيم، فإنّ الحجَّ عرفة كما قال النبيّ [1] الذي قال أيضًا: ((خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير))[2].

في ساحة الغفران في عرفات تخشَع القلوب، وتذرِف العيون، تُسكَب العَبَرات، وتُقال العثَرات، وترفع الدرجات، ويباهي الله بالحجّاج ملائكةَ السماء ويقول سبحانه: انظُروا إلى عبادي، أتوني شُعثًا غُبرًا ضاحين من كلّ فجّ عميق، أُشهدكم أني غفرتُ لهم.

ومَن لم يكن حاجًّا فيُستحَبّ له صيامُ يوم عرفة محتسِبًا أن يكفّرَ الله عنه السنة الماضيةَ والباقية، كما قال ذلك النبيّ في الحديث الذي رواه مسلم[3]، فما من يومٍ أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة، مخرّج في الصحيحين[4].

فإذا غربت الشمسُ انصرف إلى مزدلفة بسكينةٍ ووقار، وصلّى بها المغربَ والعشاء جمعًا، ويقصر العشاء، ويبيت بها تلك الليلة، ويصلّي بها الفجر، ويكثِر من ذكر الله ومن الدّعاء حتى يُسفِر جدًا، ثم ينصرف إلى منى قُبيلَ طلوع الشمس، ويجوز للضَّعفة من النساء والصبيانِ ونحوهم الانصراف من مزدلفة بعد نصف الليل، ويتحقَّق ذلك بغياب القمر.

فإذا وصَل الحاجّ إلى منى رمَى جمرةَ العقبة بسبع حصَيَات متعاقبات، يُكبّر مع كلّ حصاة، ثم ينحَر الهدي إن كان عليه هدي، ثم يحلِق رأسه أو يقصّره، والحلقُ أفضل، ثم يتوجّه للبيت الحرامِ إن تيسّر له يومَ العيد وإلا بعده، فيطوف طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، فإن كان قارنًا أو مفرِدًا وقد سعَى قبل الحجّ بعد طواف القدوم فيكفيه سعيُه ذلك، ومن قدّم شيئًا أو أخّر شيئًا من أعمالِ يومِ النحر فلا حرج عليه.

ثمّ يعود إلى منى، ويبيت بها ليالي أيامِ التشريق، ويرمي الجمارَ الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال، ثم إن شاء تعجّل في يومين، وإن شاء تأخّر لليوم الثالثَ عشر، والتأخّر أفضل، ثم لا يبقى عليه إلا طواف الوداع عندما يريد السفر من مكّة.

واتّقوا الله فيما تأتون وتذَرون، وأخلِصوا لله في عملكم وقصدِكم، واتّبعوا الهُدى والسنة، واجتنبوا ما يخرم حجّكم أو ينقصه، وعليكم بالرِّفق والسكينة والطمأنينة والشفَقة والرحمة بإخوانكم المسلمين، سيما في مواطن الازدحام كأثناء الطواف ورمي الجمار وعند أبواب المسجِد الحرام، واستشعروا عِظمَ العبادة وجلالة الموقف.



[1] أخرجه أحمد (4/309)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح سنن الترمذي (705).

[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".

[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم في كتاب الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً