أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوه في الغيب والشهادة والغضبِ والرضا والفرح والترَح، ألا فاتقوا الله ـ يا أولي الألباب ـ لعلّكم تفلحون.
أيّها المسلمون، في هذه الأيام تترقَّب نفوسُ المسلمين بعامّة حلولَ شهر ذي الحجة، وأفئدتهم تشرئبّ إلى انبثاق هلاله الوليد، وأسرابُ الحجيج بدأت تتوافد إلى البيت العتيق لأداءِ مناسك الرّكن الخامسِ من أركان الإسلام. إنهم يفِدون إليه بخطَى الطاعةِ والاستجابة لأمر الله جلّ وعلا لخليله إبراهيم عليه السلام بقوله: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:37]. إنهم يفِدون إليه ليشهَدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله جلّ شأنه ونفوسُهم في الوقت ذاته مليئةٌ بحبّ الاستطلاع على معاني الحجّ وحِكَمه وأسراره من خلال أجواءِ النسُك والتنقّل في عرصاتِ المشاعر المقدَّسة.
عبادَ الله، إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية.
تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله جلّ وعلا الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [الحج:26].
إنّ التوحيد الخالصَ هو عماد خلافةِ الإنسان في الأرض، وهو أفضلُ ما يُطلب وأجلُّ ما يُرغب وأشرفُ ما يُنسَب، لا يُشيَّد الملك العتيدُ إلا على دعائم التوحيد، ولا يزول ويتلاشى إلى على طواسمه، ما عزّت دولةُ الإسلام إلا بانتشاره، ولا ذلَّت واستكانت إلا باندثاره.
إنّه التوحيد الخالصُ الذي يأرِز بالناس إلى بِرّ الأمان والوقايةِ من زوابع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته والإلحاد في أسمائه وصفاته. إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه. إنّه التوحيدُ الذي يغمر قلوبَ المسلمين باليقين الخالص، والذي شُرع الحج لأجله حيث يقول الباري سبحانه: حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ولذا جعل الله الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس، وما الحجَر الأسودُ إلا موضعُ الابتداء ونقطة التمييز في هذا البناءِ المبارك، وليس للبركةِ والتبرّك محلٌّ مع الأحجار غير الاقتداءِ بالنبيّ بتقبيله والطواف بالبيت، ولقد صوَّر الفاروق رضي الله عنه هذا الفهمَ الحسَن بقوله: (إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك).
والمسلمُ ينبغي أن يعلمَ علمَ اليقين عندما يطوف بالبيت ويقبِّل الحجر الأسودَ ويستلم الركن اليمانيَّ أنّ النافع الضارَّ هو الله وحدَه، وأن أيَّ إخلالٍ بهذا المفهوم فإنّه يوقع في براثن الشركِ بالله الذي ما أُسِّس البيت العتيق إلا لنفيه وإزالتِه، ولذلك بعثَ النبيّ أبا بكر رضي الله عنه في العام التاسِع بالحجّ ليناديَ في الناس يومَ النحر أن لا يحجَّ بعد العام مشرِك ولا يطوفَ بالبيت عُريان. رواه البخاري ومسلم. ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأنْعَـٰمُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ [الحج:30].
ووقفةٌ أخرى ـ عبادَ الله ـ مع آياتِ الحجّ، حيث يبيّن الله جلّ وعلا أحكامه وآدابَه ليعلمَ الناسُ ما يجب عليهم في تلك العرَصات، وما لأوامر الله من التعظيم والامتثالِ والتحذير من الإخلال بها أو التكاسُل عنها أو التساهُل بآحادها؛ إذ العبادةُ ليست محلاًّ للعبَث ولا للإخلال بها من أيّ وجهٍ كان، فلهذا جاء قول الباري سبحانه دالاًّ على توعُّد المقصِّر فيها والمتهاون عنها حيث يقول سبحانه بعد سردِ شيء من أحكام الحج: ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [البقرة:196]، ولم يقل: واعلَموا أنّ الله غفور رحيم، وذلك لأجل التأكيد على حرمةِ الحجّ وعلى حُسنِ الأداء على الوجه الأكمل؛ لأنّه يقع ضمنَ حدود الله جلّ وعلا التي شرعَها وهو القائل: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [البقرة:229]، وليطالَ نفسَ المؤمن الانتباهُ إلى أنّ العقابَ في مقابِل التهاون.
ووقفةٌ أخرى مع آياتِ الحجّ عبادَ الله، تتَّضِح في جعل الحجّ محلاًّ للتعاون والبذلِ والإحساس بالآخرين وسدِّ حاجتهم حتى في مواطِن العبادة، فتأتي الآيةُ في سياقِ ذكر الحجّ دالّةً على عِظَم التعاوُن والحاجة إلى العطف على الفقراء والجوعَى وسدِّ مسغَبتهم، فيقول الله سبحانه: لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ [الحج:28]، وفي الآية الأخرى يقول: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، والقانِع هو الذي لا يسأل الناسَ إلحافًا مع جوعه وإملاقه، والمعترُّ هو الفقير الذي يتكفَّف الناس.
ووقفةٌ رابعة عباد الله، تتجلّى في قيمة التقوى وعِظَم أثرِها وأنها هي الميزانُ الذي توزَن به الأعمال ويوزن به الناس، ولذا كثُرت الوصية بالتقوى في آيات الحج، فقد قال سبحانه: وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [البقرة:196]، وقال أيضًا: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يـٰأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ [البقرة:197]، وقال سبحانه: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ [البقرة:203]، وقال أيضًا: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال سبحانه: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37]. إنها التقوى ـ عبادَ الله ـ التي هي جماعُ الخير كلِّه.
إنّك ـ أيها المسلم ـ إذا عبدتَ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله وتركتَ محارمَ الله على نورٍ من الله تخشى عقابَ الله فقد حقّقتَ التقوى بحذافيرها في واقعِ حياتك، والتي من خلالها تقوم بالحقوق المنوطَةِ بك تجاهَ خالقك وتجاه إخوانك في الدين.
ومظاهرُ الحجِّ ـ عباد الله ـ كلُّها دالّة على هذا المقصد، فالمسلمون كلُّهم كالجسد الواحد، وهم كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، والمسلمون في عرصَات الحجّ المبارَك يعيشون لحظاتٍ تتجسَّد فيها معاني التقوى المفرِزة لأساس الأخوّة الوثيقة العُرى، التي تؤلِّف بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنَتِهم، فحينما يستبدل الحجّاج زِيَّهم المعتادَ بِزِيِّ الحجِّ الموحَّد فيصبحون حينها بمظهرٍ واحد، ويتوجّهون إلى ربٍّ واحدٍ بتلبيةٍ واحدة، ويُسقطون بهذه التّلبية كلَّ هُتافٍ وطنيّ وكلَّ شِعارٍ عِبِّيّ، يطوفون حولَ بيت واحدٍ، ويؤدّون نسكًا واحدًا. إنّ هذه الصورة الحيّةَ لتُعدُّ ثمرةً يانِعة من ثمراتِ التقوى التي توحي إلى الناس بأنّه ليست هناك دواعٍ معقولةٌ تجعلهم يعيشون متناكرين متنافرين، عن اليمين وعن الشّمال عِزين، وليس هناك دواعٍ إلى أن يتكبَّر المتكبِّرون ويتجبَّر المتجبِّرون، وليس هناك دواعٍ إلى التفاخُر بالأحساب والأنساب والألقاب، بل إنَّ تمكّنَ التقوى من نفس العبد المؤمنِ ليجعله يستحضر بداهةً أنّ الله عزّ وجلّ قد ردَّ أنسابَ الناس وأجناسَهم إلى أبوين اثنين، ليجعلَ من رَحِم حوّاء ملتقًى رحبًا تتشابك عنده الصِّلاتُ وتستوثِق العُرى، يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ [الحجرات:13].
إنّه التعارف والتآلفُ والتعاون، وليس للّون ولا للِّسانِ ولا للَّقَب محلٌّ بينها، ولا للُّغة ولا للجِنس والوَطن من حسابٍ في ميزان الله، إنما هناك ميزانٌ واحد تتحدَّد به القِيَم ويُعرَف به فضلُ الناس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13].
بالتقوى ـ عبادَ الله ـ يعلو المرءُ ويشرُف كما عَلا صهيبٌ وشرُف سلمان رضي الله تعالى عنهما، وبزوالها يتحقّق الذلُّ والهوان ويضَع الله تاركَها كما وضَع أبا لهبٍ بالشرك والكفر.
إنها التّقوى ـ عبادَ الله ـ التي جعلت محمّدًا وهو مِن سادَة قريش يزوِّج ابنةَ عمّته زينبَ بنت جحش الأسدية بزيد بن حارث رضي الله تعالى عنه وقد كان مولى للنبيّ ، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه لبعض أصحابه: ((يا بني بَياضة، أنكِحوا أبا هندٍ وأنكِحوا إليه)) وقد كان حجّامًا رضي الله عنه. رواه أبو داود والحاكم.
يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطانِ، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
|