أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أوامرَه ولا تعصوه، وراقبوا أمرَه ونهيَه مراقبةَ من يخاف الله ويرجوه.
أيّها المسلم، إنّ اللهَ جلّ وعلا يقول في كتابه العزيز: هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ [الملك:15]، ويقول: فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
فأمَر المسلمَ بطلب الرّزق، أمره أن يسعَى في طلب الرّزق، فطلبُ الرزق لا بدَّ له من أسباب، والله جلّ وعلا قدّر الأسباب، وهو المالك لها والمدبِّر لها، فعلى العبدِ أن يأخذَ بكلِّ سببٍ نافع يوصلُه إلى تحقيق أمانيه بتوفيقٍ من الله.
والله جلّ وعلا أمَر رسلَه بقوله: يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. فتأمّل ـ أخي ـ هذه الآية، أمرٌ للرّسل أن يأكلوا من الطيّبات، وما هي الطيّبات؟ هي الأمور المباحات التي أباحها الله لنا وهيَّأها لنا ورزقنا إيّاها. الطيِّب كلُّ أمرٍ مباح، وكلّ طيِّب أيضًا أن تصِل إلى الحصولِ عليه بالأسباب التي أذِن الله فيها شرعًا. وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحًا، أمرَهم بالعمل الصّالح بعد الأكلِ من الطيّبات؛ لأنّ الأكلَ الطيّبَ الخالي من الحرام المباحَ في ذاته الذي حصل عليه بالأسباب الشرعيّة التي أذِن الله فيها هو الذي يُعين على العمل الصالح، فالمكاسب الطيّبة المباحةُ سببٌ لقوّة الإيمان في القلب، وسببٌ لقيام الجوارح بما أوجَب الله. وخاطَب عبادَهُ المؤمنين بما خاطب به أنبياءَه المرسلين، فقال وهو أصدق القائلين: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، فأمرنا أن نأكلَ من طيّبات ما أباح لنا، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا حصلنا عليها بالأسباب التي أذن الله فيها شرعًا.
أيّها المسلم، إنّ فتنةَ المال فتنةٌ لكلِّ مفتون إلاّ من عصَم الله. إنّ حبَّ المال غريزةٌ في نفس العبد، وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وهو زينةٌ في هذه الدنيا، ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا [الكهف:46]، ولكن سبيلُ الحصول عليه يختلف من إنسانٍ إلى آخر، فالمؤمن الذي يتّقي اللهَ ويخاف اللهَ ويرجو ثوابَ الله يسلُك في سبيل الحصول على الرزق المسالكَ الطيّبة والأسبابَ المأذون فيها شرعًا، حتى يكون تناوله لهذا المال بالطريق الذي أذِن الله له فيه، هكذا يكون المؤمنُ حقًّا، لا يخدعه المالُ، ولا تغرّه الدنيا بزخارفها، فيوقع نفسَه في الحرام، وإنّما لديه إيمانٌ يردعُه وورعٌ يحميه، إيمانٌ قويّ في قلبه لا يمكِن أن تزعزعَه زخارف الدّنيا ولذّاتها، ولكن يقِف موقفَ المؤمن التقيّ عند أيِّ مكسَبٍ يريدُه، فإن تكن تلك المكاسب مكاسبَ طيّبة مكاسبَ أَذن الله فيها سلكَها وسار عليها، وإن تكن مكاسبَ خبيثة ابتعد عنها وتركها، قُل لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ [المائدة:100]. فهو لا يغترّ بالمكاسب الخبيثةِ ولو كان وراءها الأرباحُ الكثيرة، لا ينخدع بها ولا يغترّ بها، لماذا؟ لِعلمه أنّ الله حرَّم ذلك عليه، ولعلمِه أنّ الله سيحاسِبه ويجازيه على ذلك.
أيّها المؤمن، لا يحملنَّك حبُّ الدّنيا على أن تسلكَ فيها الطرقَ السيّئة والحيَل الخبيثة لكي تصلَ إلى هذا المال من غير مبالاةٍ أمِن حلال أم من حرام.
أيّها المسلم، إنّك مفارقٌ الدّنيا ولا بدّ، وسيسألك الله عن هذا المالِ: من أين أتاك؟ وعن هذا المال: فيم أنفقتَه؟ فإن يكن وصولُ هذا المال إليك بطريقٍ أذِن الله فيه شرعًا فنِعم المال الصّالح للرجل الصالح، وإن كان وصولُ هذا المال بالطّريق المحرَّم فإنّ ذلك لا خيرَ فيه. ثمّ سيسألك على الإنفاق: هل أنفقتَه في وجوهِ الخير، أم أنفقته فيما يصدّك عن سبيل الله وفيما يثقِّل أوزارك يومَ القيامة؟
أيّها المسلم، إنَّ هذا المالَ فتنةٌ، فتنة وحقًّا أن يكون فتنة، فهو فتنةٌ لكلِّ مفتون، فتنةٌ سواء في طلبِه وجمعِه، فتنة في جمع هذا المال وتنميتِه، فتنةٌ في التكاثر والمباهاة به، فتنةٌ في إنفاقه، فالموفَّق يكون جمعُه للمال من طريق شرعي، ثمّ إذا حصل على هذا المال لا يحملهُ المال على الأشر والبطَر والطغيان، كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ [العلق: 6، 7]. ثم ينفقه فيما يقرِّبه إلى الله من نفقاتٍ واجبة وزكاةٍ مفروضة وأمور برٍّ تقرّبه إلى الله ويثقل بها ميزانُه يومَ قدومه على الله.
أيّها المسلم، إنّ هذا المالَ بلاءٌ وامتِحان، بلاءٌ لإيمانك، بلاء ليقينِك، فالمؤمن يتخلَّص من هذا البلاء بالطّريق المشروع، ويتخلَّص من بلائه بإنفاقه في الطّرق المشروعة وأداءِ حقِّ الله الواجب فيه.
أيّها المسلم، كم من إنسانٍ جمَع الأموال من طرقٍ شتَّى، لا يبالي من حلالٍ أتته أو من حرام، يرحَل عنها ويندَم ولا ينفعه النّدم، يندم حينما يعايِن ملكَ الموت، وحينما يدنو رحيله من هذه الدنيا، فيتذكّر تلك الأموال التي جمعها وكدّسها من طرقٍ شتّى ملتويَة لا خيرَ فيها، فيندم ويتمنّى أن يعودَ ليصحِّح وضعَه ولا ينفعه ذلك. دنيًا جمعَها، عليه غرمُها، ولغيره غُنمها، عليه إثمها، ولغيره مصلحتُها ومنفعتها.
فاتّق الله ـ أخي المسلم ـ في مالك، اتّق الله فيه تقوًى تقيك عن محارم الله.
أيّها المسلم، إنّ هذا المالَ الحرام لا خيرَ فيه، ولا منفعةَ فيه، إن أنفقتَ منه لم تؤجَر عليه، إن تصدّقتَ منه لم تُقبل صدقتك، إن أمسكته لم يبارَك لك فيه، إن دعوتَ اللهَ وأنت تأكل الحرامَ لم يستجِب الله دعاءك، إن خلّفته وراءك خلّفت وراءك النّار والبلاء، وانتفع به من انتفع، وتحمّلتَ الأوزارَ والآثام.
فيا أخي المسلم، اتّق الله في نفسك، اتّق الله في هذا المال، في الحديث يقول : ((لكلّ أمّة فتنة، وفتنةُ أمّتي بالمال))[1]، وأخبرنا أنّه يأتي على النّاس زمان لا يبالي الرجلُ اكتسبَ من حلال أو من حرام[2]. حقًّا إنّ هذا خبرُ صِدق، فكم من عبادِ الله من لا يبالي بمكاسبِه؛ يأكل الرّبا، ويستبيح الرّشوة، ويظلم الناسَ، ويجحد الحقوق، ويغشّ ويدلّس ويخدع ولا يبالي بذلك، يأكل الرّبا، ويستحلّ الرّشوة، ويجحَد الحقوق، ويخون الأمانة، ويتوسّل إلى المال بأيّ سبيل أمكنه، الحرامُ ما عجز عنه، والحلال ما حلّ بيده، لا يبالي ولا يتّقي ولا يرعوِي ولا يهتمّ بذلك، فأين الإيمان بالله؟! وأين الإيمان بلقاءِ الله؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ حينما تقدم على أكلِ الحرام، حينما تُعامل بالرّبا، وحينما تستحلّ الرشوة، وحينما تجحَد الحقوق، وحينما تغشّ وتدلّس، وحينما تخون الأمانة، وحينما تسوء معاملتك في المال أين إيمانك الذي يردعُك؟! أين إيمانك الذي يحجزك عن هذا الحرام؟! فاتّق الله في نفسِك، وتتدبّر أمرَك قبل لقاء ربّك.
أمّا المؤمن الذي يخاف اللهَ ويرجوه فهو الذي يأخذ المال من حِلّه، ويضعه في محلِّه، إن أكَله أُجِر عليه، إن تصدّق قُبِلت صدقتُه، إن أمسكه بورك له فيه، إن دعا الله أجاب الله دعوتَه، إن خلّفه خلّف وراءه خيرًا وعاش مَن بعده في سعادة ونعمةٍ من الله.
أيّها المسلم، كيف ترضى أن تخلِّف لمن بعدك مكاسبَ خبيثة، جنَيتها من طرقٍ خبيثة، لا تبالي ولا تستحي ولا تخجَل من الله، فتؤكِّل مَن بعدك حرامًا، تخلِّف لهم الحرامَ من مكاسبَ خبيثة وبيوعاتٍ محرّمة، من مخدّرات وأمورٍ حرّم الشارع بيعَها. فاتّق الله في نفسك، اتّق الله في مكسَب المال، لا تكتسبه إلاّ من طريق الحلال. إيّاك والرّبا والرّشى، إيّاك والخيانةَ، إيّاك والغشّ، إيّاك والخداع، إيّاك وبيعَ الأمور التي حرّمها الشارع عليك، فإنّ اللهَ حرّم عليك بيوعاتٍ محرّمة، فاتّق الله في نفسِك، وإيّاك أن تقدمَ عليها، بل ليكُن عندك خوفٌ من الله وورعٌ واتقاءٌ للمشتبِهات، حتّى تسلَم على دينك، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضِه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام.
نبيّنا يقول: ((لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتحَ عليكم الدّنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من قبلكم))[3].
فابتغِ الرزقَ بالطّرق الحلال، وأجمِل في الطلب، ولا يحملنّك حبُّ المال على أن تطلبَه بمعاصي الله، فما عند الله لا يُنال إلا بطاعتِه، والرّزق المكتوبُ لك لا بدَّ آتيك، يطلب العبدَ رزقُه كما يطلبه أجلُه، فخُذ بالأسباب النّافعةِ، خذ بالأسباب المباحة، ليكن بيعُك واضحًا، وليكن تعاملك صحيحًا، ولتكن كلُّ معاملاتِك على وفق ما شرع الله، لتكونَ من المتقين. اسمَع نبيّك وهو يقول: ((إن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحًا [النحل:51]، وقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ [البقرة:172]))، ثم ذكر النبيّ الرجلَ يطيل السّفر، أشعَث أغبَر، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ، قال: ((ومطعمُه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟!))[4]. أنّى يستجاب لذلك معناه: أنّ هذا أتى بالأسباب التي يُرجَى بها قبولُ الدعاء مِن كونه مسافرًا ودعاءُ المسافر مستجاب، مِن كونه رافعًا يدَيه، مِن كونه مستعينًا لربّه، لكن أكلُ الحرام حال بينه وبين قَبول دعائه، أيُّ مصيبةٍ أعظم من أن يردَّ الله دعاءك ولا تنتفع من دعائك؟!
فاحذَر ـ أيّها المسلم ـ أكلَ الحرام، حاسِب نفسَك في الدنيا، عُد إلى نفسك، وقيّم أموالَك، واتَّق الله في الحرام فلا خيرَ فيه، ولا تخلّفه لمن قد ينتفع به، وتحمِل أنت الآثامَ والأوزار، وتلقى الله بالتّبعات يومَ قدومِك على الله، يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]، ولا يرحمُه إلا الله باريه. فاتّق الله في نفسِك، ولا تغرّنّك الدنيا ولا تخدَعنّك مكاسبُها، قِف عند نفسِك، وحاسِب نفسَك عند كلِّ صفقةٍ تجاريّة؛ أفيها حرامٌ أم لا؟ اتّق الله في المعاملات، واتّق الله في الرّبا، وكن بعيدًا كلَّ البعد عنه، لتكون من المؤمنين حقًّا. إيّاك والخداعَ والغشَّ وظلمَ العباد وخيانتهم، إيّاك والكذب وكتمَ العيوب، إيّاك وإيّاك من كلّ ما حرّم الله عليك. هذا هو الواجب على المسلم الذي يخاف الله ويرجوه.
قال الله جلّ وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/160)، والترمذي في الزهد (2336)، والطبراني في الكبير (19/179) عن كعب بن عياض رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (3223)، والحاكم (7896)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (592).
[2] أخرجه البخاري في البيوع (2059، 2083) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4015)، ومسلم في الزهد (2961) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الزكاة (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه. |