أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، اتّقوا ربَّكم بفعل أوامره واجتنابِ نواهيه وتصديقِ أخباره، فذاك خُلق أهلِ النّهى.
أيّها المسلم، اتّق الله في سنّة نبيّك، فاقبَلها واسمَع وأطِع لها، فإنّ طاعةَ الرسول هي طاعة الله، مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ [النساء: 80]، وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر: 7].
لا تقدِّم على سنّته قولَ قائلٍ أو رأيَ ذي رأي أو هوَى صاحِب هوى، أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
عظِّم حرماتِ الله بامتثالِ الأوامر واجتناب النواهي.
أيّها المسلم، إنّ من تعظيم حرماتِ الله تعظيمَ الدّماء المعصومة، فقتلُ المسلم جريمة نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وقال: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحًا [الفرقان: 68-70] الآية، ويقول جلّ وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا [النساء: 92] أي: ليس له أن يتعمّد قتلَه، فذاك من كبائرِ الذنوب، وفي الحديث الصحيح: ((اجتنِبوا السّبعَ الموبقات)) فذكر الشركَ والسحرَ وقتلَ النفس، و((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنّفس، والتّارك لدينه المفارق للجماعة))، و((من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحة الجنة)).
أيّها المسلم، إنّ من أعظم النّفوس حرمةً عند الله نفسَك التي بين جنبيك، فنفسك أمانةٌ في عنقِك، لا تتعدّى عليها، ولا تعرض لها بسوء، فأنتَ مسؤول عنها، فيجِب المحافظة على النّفس، ومحاولةُ قتل النفس من كبائر الذنوب، سببٌ للعذاب يومَ القيامة وسخطِ الله وعضبِه، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29]، فنهانا عن قتلِ أنفسنا لأنّه تعالى بنا رحيم، ولذا وجَب على المسلم الصبرُ على البلاء، وحرم عليه الاستعجال بقتل نفسِه، بل نُهي عن تمنّي الموت، وأُمر بالصّبر والاحتساب.
أيّها المسلم، إنّ سنّة نبيّك بيّنت عِظم قتلِ الإنسان نفسَه، وأنّ قتل الإنسان نفسَه كبيرة من كبائر الذنوب، تُوعِّد عليها بالنار يومَ القيامة، ففي الصحيح أنّه قال: ((من قتل نفسَه بشيء في الدّنيا عُذِّب به يومَ القيامة))، أي: يكون عذابُه بذلك النّوع الذي أزهَق به نفسَه، وفي الصحيح أيضًا أنّه قال: ((من تردّى من جبل فقتل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن احتسَى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يده يحتسيه في نارِ جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يدِه يجأ بها بطنَه يوم القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا))، ويقول : ((الذي يطعَن نفسَه يطعنها في نار جهنّم، والذي يقتحِمها ـ أي: النار ـ يقتحهما يومَ القيامة، والذي يخنق نفسَه يخنقها في النار يوم القيامة)).
أيّها المسلم، قتلُ النّفس سببٌ لسوء الخاتمةِ وورودِ النّار والعياذ بالله. في عهد النبيّ رجلٌ غازٍ مع النبيّ لا يدَع للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلاّ قضى عليها، فقال النبيّ : ((هو في النّار))، فقال بعض الصحابة: إن يكن هذا في النّار فمن يدخلُ الجنة؟! لِما رأى من شجاعتهِ ودفاعِه، فلمّا آلمته الجِراح أخذ سهمًا من كنانتِه فانتحر وقتلَ نفسه، فجاء الرجل إلى النبيّ يعدو وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله؛ الذي قلتَ: إنّه في النار قد صدَق الله حديثَك، قد أخذ سهمًا من كنانتِه فانتحر. وفيهِ أيضًا أنّ رجلاً أصابته جراح، فجزع فأخذ سكّينًا فحزَّ بها يدَه فلم يرقأ الدّم حتى مات، فقال الله: ((بادرَني عبدي بنفسِه قد حرّمت عليه الجنّة)).
أيّها المسلم، هذه أحاديثُ صحيحة صريحة تبيِّن لك جريمةَ قتل النّفس، وأنّها خطيرة عظيمة، تدلّ على ضَعفٍ في الإيمان وقلّة في الصبر، وعلى فسادٍ في العقل وسوءٍ التصوّر والعياذ بالله.
أيّها المسلم، بأيّ حقٍّ تقتل نفسَك؟! وعلى أيّ دليل تعتمد؟! وبأيّ سلطان تلقى الله يومَ القيامة؟!
احذَر ـ أخي ـ أن تكونَ فريسةً للأعداء، يقضون بك أهواءَهم وينفِّذون بك أغراضَهم. هل حاسبتَ نفسَك عند الإقدام على هذه الجريمةِ وهي قتل النفس، الانتحار، تفجير النّفس؟! هل سألتَ نفسك: لماذا فعلت؟ ولمصلحة من تَفعل؟
إنّك تقدِم على أمرٍ خطير فيه إنهاءٌ لحياتِك، فهل تكون حياتك حياةَ شقاء وتختِم حياتك بسوء الفعل وتلقى الله بهذه الخاتمةِ السيّئة؟! قد قتلتَ نفسك، فعصيتَ ربّك، وخالفت هديَ نبيّك، وضربتَ به عرضَ الحائط.
أيّها المسلم الذي يخاف الله ويرجوه، إيّاك أن تنخدعَ بالشعاراتِ الزّائفة، إيّاك أن يستدرجَك الشيطان وتمضيَ في الهوى وتصمّ أذنَك عن سماعِ الحقّ وعن العملِ به، وتنخدعَ بآراء الضّالين وآراء المفسِدين والذين يقضون بك أغراضَهم وهم لم يفعلوا شيئًا، إنّما يريدونك ضحيّة لهذه الجريمةِ النّكراء دونَ تأمّل وتعقّل.
تعقّل في نفسك، واحذَر الاندفاع والحمَاس بلا دليلٍ والشعاراتِ الزّائفة والانقيادَ إلى الهوى، تأدّب بآداب نبيّك الذي أمرك بأن تحافظَ على نفسك، ونهاك عن الإقدام على هذه الجريمة.
أيّها المسلم، هل تريد أن تلقى ربَّك وقد ختِم لك بسوء في يومٍ يتبرّأ منك القريب، يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37].
حياةٌ متّعك الله بها فاستغِلَّها إلى أن يأتيَك الأجلُ المكتوب، واحذَر أن تكونَ سببًا لإزهاق نفسِك تحت أيّ ظرفٍ ما، فالذين يرَون الانتحارَ وقتلَ الإنسان نفسَه يرونَه شجاعةً إنّ هؤلاء هم الجُبناء حقًّا، الشجاعةُ الحقّة هي الثبات على الحقّ، الثبات على المبدَأ السليم، الدعوة إلى الخير، ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنّما الشديد الذي يملِك نفسَه عند الغضب)).
هؤلاء الذين يفجِّرون أنفسَهم ويقتلون أنفسَهم قد عجَّلوا بأنفسهم إلى النّار والعياذ بالله، عصَوا ربَّهم وخالفوا سنّةَ نبيّهم وأطاعوا الأهواءَ والآراء الباطلةَ والدّعوات الكاذبةَ الخادعة التي لا تنبني على أصلٍ، ولكنها خِداع ومكر، أحسنوا الظنَّ بأعدائهم، وظنّوا أنّ هذا العملَ شريف، ولعمرو الله إنّه من الأعمال الفاجرةِ الظالمة.
فالعبد ما دام في الحياةِ فإنّه يستقيم ويعمَل عملاً صالحًا ويرجو أن يوفَّق لتوبةٍ نصوح في ساعةٍ ما من عمره، فيلقى الله على حُسن حال، فإنّ العبد يعمَل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينَها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها، وربّما عمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فاستقِم على الطاعةِ والهدى، وحافِظ على نفسك، والزَم الطريق المستقيم. والدعوةُ إلى الخير والإصلاح لا تكون بتفجيرِ النفوس، لا تكون بقتلِ الإنسان نفسَه، فتلك لم تحقِّق لأهلها خيرًا ولم تجلِب لهم خيرًا، إنّما هي من دُعاة الباطل، إنّما هي من آراء الضّالين الذين يزجّون بشباب الأمّة في أمورٍ ومتاهات لا يعرِفون نتائجها.
فليتّق المسلم ربَّه، وليمسِك لسانَه عن الباطل، ولا يعين ذا جهلٍ على جهله، وإنّما ينصَح ويوجِّه ويدعو إلى الخير.
أسأل الله أن يحفظنا وإيّاكم بالإسلام، وأن يعيذنا من شرّ أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ومِن دعاة الضلالة ومن أئمّة الضلال الذين يصدّون النّاس عن سبيلِ الله ويغوونهم ويوقِعونهم في الباطل، عياذًا بالله من سوءِ الخاتمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|