أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيداً [النساء:60]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة النساء، وهي مدنية، وتشير هذه الآية إلى أنّ أحد المنافقين في المدينة المنوّرة قد رفض الاحتكام إلى الرسول ، وأراد أن يحتكم إلى أحد الطواغيت الظلمة، فهو في زمرة الشياطين الضالين.
وهناك ـ يا مسلمون ـ آية أخرى في السورة نفسها، أي: في سورة النساء تؤكّد هذا المعنى، فيقول الله عز وجل: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ أحد المنافقين قد رفض الانصياع لقرار التحكيم الذي أصدره رسولنا الأكرم ، وادّعى هذا المنافق بأن هذا القرار مُتَحَيّز وغير عادل[1].
أيّها المسلمون، يجهل البعض في هذه الأيام, أو يتجاهلون الأحكام الشرعية المتعلقة بالولاء والتبعية، في حين إنّ عشرات النصوص الشرعية من الآيات الكريمة, والأحاديث النبوية الشريفة؛ صريحة في أنّه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لشياطين الإنس من العلمانيين واللادينيين، ولا للقوانين الوضعية المستوردة من دول الكفر، الذين يكذبون قول رب العباد ويطبقون قول العباد، ويهجرون القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويريدوننا أن نتنفس بقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، ونسي المسلمون أو تناسوا في هذه الأيام أن ملة الكفر واحدة، وأن دول الكفر كما هو واضح ومعلن لن تغير مواقفها العدائية تجاه المسلمين، تجاه قضاياهم المصيرية، ولو أن المسلمين احتكموا إلى دينهم العظيم؛ لما أشغلوا أنفسهم, وما أضاعوا وقتهم, وهم يلهثون وراء دول الكفر والاستعمار، فأين الإيمان؟ أين اليقين؟ أين التوكل على رب العالمين؟
أيها المسلمون، يتوجب على المسلمين في هذه الأيام أن يلتزموا نهج نبيهم محمد ، في جميع مناحي الحياة من خلال سننه العملية؛ لأنه لم يكن تابعاً ولا عميلاً لأي دولة أخرى، بل كان يعد العدة, ويعبئ الصحابة روحياً وإيمانياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً، ثم يلجأ إلى الله رب العالمين يطلب منه النصر والتوفيق، فهذا ما حصل على سبيل المثال لا الحصر قبل بدء معركة بدر الكبرى، حين توجه عليه الصلاة والسلام إلى الله بتضرع وخشوع قائلا: ((اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني))[2].
أيها المسلمون، ومازال عليه الصلاة والسلام يهتف بهذا الدعاء ويردده مادًّا يديه, مستقبلاً القبلة, حتى حقق الله وعده.
ولم يتوجه عليه الصلاة والسلام إلى الفرس والروم، ولم يطلب منهم التدخل, كما نسمع كثيراً في هذه الأيام، فلم يكن عليه الصلاة والسلام تابعاً ولا ذليلاً لأي دولة من الدول الكبرى وقتئذ، وإنما كان اعتماده على الله وحده، هو مولاه ومولى المسلمين جميعاً، ولا أحد غيره، يقول عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُم [محمد:11].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، واعلموا أن الخطأ كل الخطأ أن نأمل المساعدة من غير المسلمين، والإثم كل الإثم أن نطلب النصرة والحماية من الكافرين، الذين يتظاهرون بحرصهم وبعطفهم على المسلمين، ولكنّ الحقيقة المؤلمة أنهم يُكِنّون العداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أعظم.
وإن الأحداث والوقائع من أيام الحروب الصليبية حتى يومنا هذا تؤكد ذلك، ويخطئ من يظن أن الحروب الصليبية قد انتهت وقتئذ؛ لأن الغرب منذ أن طُرِد من ديار الإسلام قبل ثمان مائة عام، وهو يخطط ليعود إلى بلادنا من جديد، بأسلوب أو بآخر، ولم يتضح هذا المخطط الاستعماري لكثير من المسلمين إلا بعد الحرب العالمية الأولى، فحين دخل اللورد اللنبي البريطاني مدينة القدس في مطلع القرن الماضي قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ومثل ذلك حين دخل الجنرال غورو الفرنسي مدينة دمشق توجه إلى قرب البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه بالقرب من المسجد الأموي، وركل الجنرال غورو المجرم، ركل القبر برجله, وقال بحقد وكراهية: "قم يا صلاح الدين، الآن انتهت الحروب الصليبية".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والملاحظ أن كلا القائدين، البريطاني والفرنسي قد استعملا لفظ الآن، على اعتبار أنهما حققا الهدف المنشود، وهو احتلال ديار الإسلام من جديد.
وفي الحقيقة أن الحروب الصليبية لم تنتهِ في الحرب العالمية الأولى، بل هي مستمرة، وإن الأحداث هذه الأيام تؤكد ذلك، إذ إن السياسيين الغربيين الذين يلعبون في مصير الشعوب المستضعفة حالياً، هم صليبيون, ولا يجوز شرعاً أن نثق بهم أو نطمأن إليهم.
أيها المسلمون، يطرح في هذه الأيام مشروع قانون العقوبات الفلسطيني لمناقشته, ولإدخال التعديلات عليه، وقد عقدت خلال هذا الأسبوع عدة اجتماعات من قبل مجلس الفتوى الأعلى، ومن قبل رابطة علماء فلسطين، ومن قبل جمعيات قانونية، وذلك لدراسة مشروع قانون العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات في الإسلام، مع أنه لا يجوز الاحتكام إلى القوانين الوضعية, والتي تخالف مخالفة صريحة الأحكام الشرعية، وإن أي مشروع يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله، وإنه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لأي قانون وضعي.
أيها المسلمون، مهما نزلت من المحن والفتن، ومهما تعرض المسلمون في العالم للضغوطات فإن الحكم الشرعي لا يتغير ولا يتبدل، إن الذي بحاجة إلى التغيير هو نفوس المسلمين، نعم نفوس المسلمين، تلك النفوس التي تمردت على الله رب العالمين، واستمرأت الذل والهوان، فإن أقبلت هذه النفوس على الله واحتكمت إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله عز وجل يبدل حال العالم الإسلامي بحال أحسن وأفضل.
وهذه هي المرحلة الأولى في الإصلاح، يقول عز وجل في سورة الأنفال: ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52]. ويقول الله عز وجل في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم [الرعد:11].
تداركنا يا رب العالمين برحمتك وعدلك، وهيئ لنا طريق النجاة والخلاص؛ لنرجع إلى دينك وقرآنك وسنة نبيك.
جاء في الحديث الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))[3] صدق رسول الله .
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرج الطبري في جامع البيان (5/152-154), جملة من القصص في سبب نزول الآيات من حديث ابن عباس والشعبي وقتادة وغيرهم.
[2] ذكره ابن إسحاق في السيرة (ابن هشام3/168).
[3] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة(1/12) من حديث عبد الله بن عمرو, وصححه النووي في الأربعين, ووثق رجاله ابن حجر في الفتح(13/289), وأعله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (386), وضعفه الألباني في تعليقه السنة لابن أبي عاصم.
|