أمّا بعد: فيا عباد الله، اتَّقوا الله فإنَّ تقوى الله خيرُ زاد يتزوَّد به المرءُ لقطع أشواطِ الحياة بمنأًى عن الزّلل وسلامةٍ مِن الأوزار في يومٍ تتقلَّب فيه القلوب والأبصار.
أيّها المسلمون، إنَّ الإقرارَ بالنّعم والشهادةَ بالمِنن واللّهجَ بالفضائل والبيانَ للمحامد كلُّ أولئك ممَّا يقعُ به الشّكر، ويرتفع به الثّناء، ويصحُّ به الحمد لله ربِّ العالمين، فإنّه مُسبِغ هذه النِّعم، ومُسدي هذا الإحسان، ومفيضُ هذا الخير.
وإنَّ ممَّا أنعَم الله به على هذه البلاد مِن سَابغ النِّعم وما أكرمَها به من جميل العطايَا وما حبَاها به من وافرِ الهبات أن جعَلها دولةَ الإسلام وواحة السّلام ودارَ الأمن والإيمان، لكنَّ مَن أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ وأوضَعوا في العدوان ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم، واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل لتكَوِّن مجتمعةً عملا إرهابيًّا آثمًا يأباه الله ورسوله وصالحُ المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولا ما وقعَ في بلدِ الله الحرام عشيَّة يوم السّبت من إقدام فئة ضالّةٍ عن سواء السّبيل على إطلاق النّار صوبَ عبادِ الله المؤمنين من رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من إحباطِ المسعى الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من أحدِ المساكن في هذا البلد وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار التي كان من بَينها مصاحفُ مفخَّخة حتّى يكون الموتُ أو ما يقرُب منه مصيرَ من حرَّك أغلِفتَها ليقرأ كلامَ الله الذي بِه حياةُ القلوب والأرواح، فهل يقبَل بهذا ـ أيّها الإخوة ـ مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلا عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين أُطلِقت عليهم هذه النّيران فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟! وهذا البلدُ الآمن الذي فيه هذا البيتُ الشّريف وهذا المسجد المبارك أليسَ هو بالبلد الحرامِ الذي يأمَن فيه الإنسان والحيوانُ والطير فلا يقتل والشجر فلا يعضد؟! كما أخبَر بذلك نبيّ الرحمة والهدى في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله يومَ فتحِ مكّة: ((إنّ هذا البلدَ حرَّمه الله تعالى يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمةِ الله عزّ وجلّ إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكُه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتقَط لقَطَته إلا لمعرِّف، ولا يُختَلى خلاه))، فقال العباس: يا رسول الله إلاّ الإذخِر؛ فإنّه لقَينِهم وبُيوتهم، قال: ((إلاّ الإذخِر))[1]، وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي شريح العدويّ رضي الله عنه أنّه قال لعمرو بن سعيد: ائذَن لي ـ أيها الأمير ـ أحدِّثْك قولا قام به رسول الله الغد من يومِ فتحِه مكّة، سمعَته أذناي ووعاه قلبي وأبصرَته عيناي حين تكلَّم به، إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((إنّ مكّة حرَّمها الله، ولم يحرِّمها الناس، فلا يحلّ لامرئ يؤمِن بالله واليوم الآخر أن يسفِك فيها دمًا، ولا يعضدَ بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا: إنّ الله قد أذِن لرسوله ولم يأذَن لكم، وإنّما أذِن لي فيها ساعةً من نهار، ثم عادَت حُرمتها اليومَ كحرمتِها بالأمس، وليبلّغ الشاهدُ الغائب))[2].
أفيُعرِض عن هذا البيان النبويّ والتّحذير المحمّديّ إلا من طبَع الله على قلبِه وسمعِه وجعَل على بصره غشاوة، واجتالته شياطين الإنس والجنّ عن سبيل الله وحادت به عن صراطه المستقيم؟! وكيفَ يستبيح أحدٌ لنفسِه ما قد حرّمه الله ورسوله مِن ترويع المسلم وإخافته، فضلا عن قتله وسفك دمِه؟! ألم يطرقْ سمعَه قولُ رسول الله في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد صحيح على شرط البخاري عن رجالٍ من أصحاب رسول الله أنّه عليه الصلاة والسّلام قال: ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا))[3]، وإذا كانَ هذا التّرويع محرَّمًا على المسلم اقترافُه في كلِّ مكان أفيحِلُّ ذلك التّرويع في بلدِ الله الحرام، أو في بلد رسوله عليه الصلاة والسلام؟! ثم ألم يتوعَّد ربُّنا سبحانه كلَّ من أراد الإلحادَ في حرمه بالعذاب الأليم وذلك في قولِه عزّ اسمه: إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَاء ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. وما هو الإلحاد الذي توعَّد الله من أراده في هذا البلد؟ ألم يوضِّحه سلفُ هذه الأمة وخيارها أوضحَ بيان وأوفاه؟! حيث قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: (هو أن تستحلَّ من الحرَم ما حرَّم الله عليك مِن لسان أو قتل، فتظلمَ من لا يظلِمك وتقتلَ من لا يقتلك)[4]، ثمّ ألم يبيِّن سلفنا الصالحُ رضوان الله عليهم أنّ مِن خصائصِ هذا الحرَم التي جعلها الله له أنَّ العقوبةَ مُرصدَة لمن أراد فيه إلحادًا وإن لم يقَع منه إلا مجرَّد الإرادة؟! فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه ابن أبي حاتم بإسنادٍ صحيح عنه قال: (ما مِن رجل يهمُّ فيه ـ أي: في الحرم ـ بسيّئة إلا كُتبت عليه)[5]، ومن المعلوم ـ أيّها الإخوة ـ أنَّ مثلَ هذا ممَّا لا مجال للرّأي فيه، فله حكمُ المرفوع إلى رسول الله كما هو مقرَّرٌ في موضعِه. وإنَّ ما وقع مِن إحباطِ مسعَى هذه الفئةِ قبل أن تبلغَ ما أرادت لهو دليلٌ بيِّن لمَن تأمَّله على صحَّة هذا المعنى.
عباد الله، إنّ هذه الأحداث الأليمةَ التي تقضّ لها مضاجعُ أولي النّهي، وتهتزّ لها أفئدة أولي الألباب، وإنَّ هذا العدوانَ الذي تعرَّضت له هذه البلاد في بعض مُدُنها هو أمرٌ مرفوضٌ ينكِره كلُّ العقلاء أشدَّ الإنكار، لأنّه محرَّم بنصوص الكتاب والسنة؛ ولأنّه تعَدٍّ لحدود الله وانتهاكٌ لحرماته وعدوانٌ على عباده، ولأنّه فسادٌ نهى الله عنه، وأخبر أنّه لا يحبّه وأنّه لا يُصلح عملَ المفسدين، وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، ولذا فإنّ من ولاّه الله أمرَ هذه البلاد قد قام بحمدِ الله وسوفَ يقوم بما وجب عليه من إطفاء نار الفتنةِ وحماية الحوزةِ والحفاظ على الوَحدة وصيانةِ كيان الأمّة، بالنزول على حكمِ الله وتحكيم شريعتِه، لقطع دابر الفساد والمفسدين وإعادة الحقِّ إلى نصابه، حتّى تبقى هذه البلاد كما كانت دائمًا وكما أراد الله لها مَوئلا للهداية ومبعَثًا للنّور ومثابةً للنّاس وحِصنًا حصينًا تتكسَّر عليه أمواجُ الفتَن وترتدُّ عن حياضه سهامُ المكرِ والكيد خائبةً لم تبلغ ممَّا أرادت شيئًا، ولم تنَل ممّا صبت إليه نفوسُ أصحابِها قليلا ولا كثيرًا؛ لأنَّ هذا تقديرُ العزيز العليم، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجزية (3189) ومسلم في الحج (1353).
[2] أخرجه البخاري في العلم (104) ومسلم في الحج (1354).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249)، وحسنه العراقي كما في الفيض (6/447)، وصححه الألباني في غاية المرام (447).
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (17/140).
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (17/140-141) بنحوه. |