أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله حقَّ التقوى، وأخلِصوا له العمل، واذكروا وقوفَكم بين يديه في يومٍ تشخص فيه الأبصار، يومَ يتذكّر الإنسان ما سعى، يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.
أيّها المسلمون، إنّ المخالفةَ عن أمر رسول الله والإعراضَ عن هديِه ومنابذة سنّته سببُ الذل، وأصلُ البلاء، ونذير الشّؤم، ومدرجة الوقوع في الفتن، وطريق العذاب الأليم. وقد حذَّر سبحانه العبادَ من التردّي في وهدة هذه المخالفة، مبيّنًا أنّ العاقبة في نبذ سبيل الاتّباع والحيدة عنه هي الإصابة بالفتنة والإصابة بالعذاب الأليم، فقال جلّ وعلا: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] الآية. وأوجب سبحانه التأسيَ به صلوات الله وسلامه عليه مبيّنًا أنّه القدوة الحقّةُ لكلّ مؤمن بالله واليوم الآخر، يستعصِم بها من الضّلال، ويبلغ بها ما يأمل من الرّضوان ونزول رفيع الجنان، فقال عزّ وجلّ: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]. وإنّ الفتنَ التي تصيب مَن هجر سبيلَ الاتّباع وجانَب طريقَ التأسّي صنوفٌ وألوان، لا يكاد يحيط بها الحَصر، غيرَ أنّ مِن أعظم هذه الفِتن خطرًا وأشدِّها ضَررًا فتنة التكفير التي أحدثت في الحياة الإسلاميّة فسادًا عريضًا، عمَّ كلَّ جوانبها، وأدخل على المجتمع المسلم من الشرِّ والنُكر والبلاء ما لا مزيدَ عليه.
عبادَ الله، إنَّ التكفير ـ أي: الحكم بالكفر ـ أمرٌ خطير، يستبين خطرُه وشدّة ضرره بمعرفة ما يترتَّب عليه من حِلِّ دمِ المكفَّر وماله، والتفريق بينه وبينَ زوجه، وقطع الأواصر التي تربطه بالمسلمين، فلا توارثَ بينه وبينهم، ولا ولاءَ له، وإذا ماتَ لم يغسل ولم يكفَّن ولم يصلَّ عليه، ولم يدفَن في مقابر المسلمين، ولذا فقد جاء في صحيح السنة التحذيرُ الشديد والوعيد الزاجرُ لمن استباح هذا الحِمى وخاض غمارَ هذا البَحر اللّجِّيِّ بغير علم ولا هدًى ولا كتابٍ منير ولا دليل أمين تقيٍّ نقيٍّ يخاف الله واليوم الآخر، ففي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ يقول فذكر الحديث وفيه: ((ولا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدَّت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك)) وهذا اللفظ للبخاري في صحيحه رحمه الله.
وقد عُنِي ببيان الحقّ في هذه المسألة وتفصيل القول فيها علماءُ أهل السنّة والجماعة الذين يستضيؤون في تقريرهم وإيضاحهم بأنوار الوحيين، ولا يقدّمون على الدليل الصحيح شيئًا، ولا يرتضون عنه بديلاً، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتحقيقُ الأمر فيها ـ أي: في هذه المسألة ـ أنّ الشخصَ المعيَّن الذي ثبَت إيمانُه لا يحكَم بكفره إن لم تقم حجّةٌ يكفُر بمخالفتها وإن كان القول كفرًا في نفس الأمر، فقد أنكر طائفةٌ من السلف بعضَ حروف القرآن لعدَم علمهم أنّها منه، فلم يكفَّروا، وعلى هذا حمَل المحقِّقون حديثَ الذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني))، فإنّه كان جاهلاً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك، وليس كلّ من جهِل بعض ما أخبر به الرسول يكفر؛ لأنّ ثبوتَ حكم التّكفير بحقّه متوقّفٌ على تحقّق شروطٍ وانتفاء موانع" انتهى كلامه يرحمه الله.
ومِن المعلوم ـ أيّها الإخوة ـ أنّ العلمَ بتحقّق الشروط وانتفاء الموانع لا يتأتَّى لكلّ أحد، ولا يصحّ أن يُترك نهبًا للاجتِهاد والآراء، بل هو مِن شأن أهلِ العلم من القضاة والمفتين المعتبَرين وأمثالهم من أعضاء المجامع والهيئات الشرعيّة المعتمَدَة المعتبَرة. والمقصودُ أنّ هذا القولَ المحرّر المتين الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الذي بيّنه وما برح يبيّنه أهل العلم في هذه البلاد المبارَكة منذُ عهدِ الإمامَين المصلحَين المجدِّدَين محمّد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله رحمة واسعةً إلى عصرنا هذا الحاضِر، وذلك ممّا هو معلوم مشهور مرقوم بخصوصهم، منشور موثَّق في كتبِهم ورسائلهم ودروسِهم وفتاواهم، تلك التي عمَّت الآفاقَ، وتقبَّلتها في كثير من ديار المسلمين عقولٌ منصِفة متجرّدة وقلوبٌ محِبّة نقيّة من شوائب الدعايات المغرِضة وأوضار التّهَم الجائرة وأوزار الدعاوى المفتقِرة إلى البيّنات والبراهين، إذ ليس في هذا المنهج النبويّ والطريق السلفيّ إلا العودةُ بالمسلمين إلى نقاء هذا الدّين وصفائه الذي كان عليه في القرون المفضّلة قبلَ أن تعكِّر صفوَه البدع والمحدثاتُ والمقالات والآراء والنّحل والأهواء التي أظلمت بها جوانبُ الحياة الإسلاميّة قاطبة، وكانت من أظهر أسباب تأخُّر المسلمين وتخلُّفهم حتّى أصبَحوا في ذيل القافلة بعدما كانوا القادةَ فيها.
وإنَّ هذا النهجَ المبارك ـ يا عباد الله ـ ما يزال مرفوعَ اللّواء بحمدِ الله على ربوع هذه البلاد المباركة، وما يزال ـ كما كان دائمًا ـ منارًا للقاصدين وضياءً للحائرين وقرّةَ عينٍ للموحّدين وهدًى وشفاءً لما في صدور العالمين، لا يضيره ولا يَضرُّه مخالفة من خالفه ولا عداءُ من عداه، فإنّه إن شاء الله منصورٌ مؤيَّد بنصر الله وتأييده وحِفظه ورعايتِه، ثمّ بما نراه ويراه كلّ عاقل متجرِّد من دَعم وتأييد ومساندة ولاّة أمر هذه البلاد الطيّبة، ومعهم ومِن ورائهم أهلُ العلم والفضل والخير والإصلاح من رجالها ونسائها وشبابِها وشيوخها وأطفالِها، في تكاتُفٍ وتعاضدٍ فريد، وتآزر يُرضي الله ورسولَه إن شاء الله، ويسرُّ ويُعجب المؤمنين الصادقين، ويغيظ ويكبت الحاقدين والشانئين والمُرجفين ومن لفَّ لفَّهم واتَّبع سبيلهم من المخرّبين والمفسدين والشاذّين الذين يبرَأ إلى الله منهم ومِن سوء ما قدَّمت أيديهم كلُّ مؤمن صادق مخلِص لله ورسوله يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه، في كلِّ الديار وفي جميع الأمصار، فما كان لمؤمنٍ صادق إلاّ أن يستجيبَ لله وللرّسول إذا دعاه لما يُحييه، وما كان له إلا أن يصيخ سمعَه لنداء القرآن وكلام الرحمن الذي يدعوه إلى النجاة بقوله سبحانه: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|