أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فيا فوزَ من عاشَ في ظلِّها، ويا خسارةَ من حاد عنها.
أمَّة الإسلام، تعيش البشريّة اليومَ في عالمٍ يتجسَّد فيه حصادُ التمزّق والتشرذُم، ويغيب عن كثيرٍ من أحواله منطقُ الحِكمة والعقل. عالمٌ يمرُّ بمنعطفٍ تاريخيّ خطير، اضطربَت فيه العلاقات وانقلبَت لديه الموازين، بُعدٌ عن الله جلّ وعلا، ونسيانٌ لتعاليم الشرائع الصحيحةِ المنزّلة. عالمٌ فيه المصالحُ الدنيويّة هي القائد والميزان المحرّك. عالمٌ فيه المآرب النفعيّة هي الغايَة التي تبرِّر الوسائلَ والتصرّفات. عالمٌ فيه مبدأ القوّة والعلوّ والتجبّر يعلو مبدأَ السلام والرّحمة والإحسان. عالمٌ تُزوَّق فيه الشّرور والحروب بمصطلحاتٍ خادعةٍ موهومَة، وتُنتَهك فيه الحقوق بمبادئَ مزعومةٍ زائفة، وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
معاشرَ المسلمين، مرّت أمَّتُنا ولا تزال تمرّ بأيّامٍ عصيبة وظروفٍ قاسية مريرة، مهما أوتيَ القلَم من براعةٍ ومهما وصلت إليه البلاغة اللسانيّة فلن تفيَ في تصوير الواقع المأساويّ الواقعِ في فلسطين الغاليةِ وأرض الرافدَين الحبيبةِ ومدينة السلامِ بغدادَ العزيزة، ممَّا يعتصِر معه قلبُ كلِّ مسلم، وتذرف له عينُ كلّ مؤمن. معاناةٌ عاشها ويعيشها مسلمون مدَنيّون أبريَاء لا عن وزرٍ عمِلوه، ومآسي ذاقَها ويذوقها مؤمنون لا عَن إثمٍ وجُرم اكتسبوه. دماءٌ طاهِرة ذهبت هدَرا، ونفوس أُزهِقت ظلما وجورًا، ومقدَّرات لا تُحصى ضاعَت عبَثا، واللهُ غالب على أمره، فإليه الملجَأ والمشتَكى، ورحِم الله النفوسَ المؤمنة، وجعلها في عِداد الشّهداء، وأحسنَ الله عزاءَ الأمّة الإسلاميّة جمعاء.
أمَّة الإسلام، لمّا بنى المنصورُ مدينةَ بغداد أسماها مدينةَ السلام، وكتب في خطّتها: "بسم الله، والحمد لله، إِنَّ ٱلأرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، ابنوها على بركة الله"[1].
كانت معقِلَ العلماء وموئِل الصّلحاء وموطِن المتَّقين والأولياء، ومهما أحاط بها من ظلمِ المعتدين وعانى أهلُها من قهرِ المجرمين فإنَّ مدينةً هذا أصلُها وذلك تاريخُها فلا يمكِن أن تعيشَ بسلامٍ إلا بالإسلام، ولن تزدهِر بغير العلم والإيمان، ولن يعمَّ الرخاء والاستقرارُ والأمن بغير السنّة والقرآن.
وإنَّ الواجبَ اليومَ على أهلِها وعلى أهلِ الرافدَين جميعًا أن يَعُوا حاضرَهم وماضيهم، وأن يتفقَّهوا تاريخَهم وتراثَهم، وأن يستدرِكوا أنَّ حالَهم لا يصلحها إلاّ ما أصلح أوائلَهم من العلماء والصّلحاء. فليعتصِموا بحبلِ الله، ويتمسَّكوا بسنّة رسول الله، ويحكمُوا أنفسَهم بكتاب الله.
يا أهلَ العراق العزيزة، تذكّروا أنَّ بلادَكم بلادُ إسلام، ودياركم ديار إيمان، فاجتمِعوا عليه، ولا تتفرّقوا فيه، فأمنُكم مرهون بعقيدةِ التوحيد، وسعادتكم مربوطةٌ بالتمسُّك بالإسلام المجيد. أعلِنوها للأعداء، وأفهِموها للعملاء، فكفى بالماضِي القريبِ عبرةً لمن اعتَبَر وعظةً لمن اتَّعظ، ولا يُلدغ مؤمنٌ من جُحرٍ مرَّتين.
معاشرَ المسلمين، عاشت بعض بلدان المسلمين ولا زالت تعيش في كثيرٍ من البقاع تحتَ عالمِ الشّعارات الزائفة والنّزعات التّافهة والحزبيَّات القوميّة التي زعزعت الولاءَ لله ولرسوله ، ووهنت معها أواصرُ الأخوّة الإيمانيّة، واهتزّت فيها الروابِط العقائدية، فأُقيمت أنظمةٌ على تركِ التناصُر بالإسلام، بل طغَت أنظمتُها على كلّ طريقٍ محمّديّ ونهج نبويّ، فماذا ـ يا تُرى ـ أكسبت لأصحابِها إلا ذلاًّ وهوانا؟! وماذا جرّت على أمَّتها إلا خزيًا ودمارًا؟! ماذا جنَت لأهلها إلا عارًا وصغارًا، ولبلدانها إلا هلاكًا وبوارا؟! ما جرّت تلك الحزبيّات والقوميّات إلا استباحة الحِمى ونهبَ الديار وسلبَ الخيرات ووقوع الأمّة في أزمات معنويّة ومِحن ماديّة خانقة؟! للهِ كم جنتَ تلك المناهجُ والأحزاب البعيدة عن الإسلام ونظامه على الأمّة المحمديّة من ويلاتٍ وويلات، تعجز الأقلام عن تسويدها، ولا يسعُ الصحفَ عرضُها، ولا تستطيع الذاكرة استيعابَها، بسبَبِها تداعت على الأمّة الإسلاميّة سائرُ الأمم، وتكالبت عليهم الشرورُ من كلّ حدب وصَوب، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ولن تزالَ الأمّة كذلك حتى يطهِّر الإيمان الحقيقيُّ قلوبَ أبنائها، ويعيدَ التمسّكُ بالإسلام بناءها وتماسكَها، وحتى تعُمّ أحكام الشريعة الإسلاميّة مناحيَ حياتها بشتّى جوانبها.
معاشرَ المؤمنين، الأمّة المحمديّة خيرُ الأمَم، كريمةٌ عندَ ربِّها، عزيزة عند خالقِها، وما يصيبها من أزماتٍ ومِحن ما هي إلا سنّةٌ من سنن الله في الابتلاء والتَّمحيص، ذٰلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ويقول جل وعلا: وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [آل عمران:140، 141]. فكم من مِحنة مرّت بها أمّةُ محمّد حملت فتوحاتٍ وإصلاحات، وكم من مصائبَ نزلت بالأمّة كانت بها الاستفاقةُ من الغَفَلات. مِحنٌ أظهر الله بها المنافقَ من المسلم والمؤمنَ من الكافر والصادقَ من الكاذب والمجاهدَ في الله من المجاهدِ في سبيل الشيطان. محنٌ ظهر بها الولاءُ لله ومدى المحبّة لرسول الله .
أمّةَ الإسلام، حالُ الأمّة اليومَ لا تخفى على أحَد، مآسي بكلِّ المقاييس، وآلامٌ ومصائبُ بكلِّ المعايير، يعجز اللّسان عن تصوير واقعِها، ويخفق الجنانُ عند ذكرِها، ويعيَى البيان عن الإحاطةِ بها. فعلى المسلمين ـ وهم تنزِل بهم النوازل وتقع بهم الوقائعُ ـ أن يعلَموا أنَّ مِن دروس الابتلاءات الحاجةَ إلى المراجعة والضّرورة إلى التّمحيص والإصلاح وتقييم المَسَار.
حقٌّ على الأمَّة كلِّها أن ينظُروا بجدٍّ وإِخلاص، وأن يتبصّروا بصدقٍ في أسباب ما حلّ بهم وفي عوامل ما أصابَهم من خزيٍ وعار، إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
والحقيقةُ التي يجِب أن لا تغيبَ أنَّه يجب النّظر إلى معطياتٍ كثيرة تؤخَذ بعينِ الاعتبار متى أردنا تقديمَ ما هو واقعيّ ومنطقيّ لما تعانيه أمّتنا من ضعفٍ وذلّة وهوان، ألا وهو الموازنة بين الأسبابِ الدينيّة والدنيويّة، لمواجهة التحديات وأخطارها والأزمات وتداعياتِها.
إنَّ الأمّة يجب أن تعالجَ خللَها من واقعِ ثوابتِها، وأن تصحِّحَ مسارَها الخاطئ من منطَلق أصولِها وتأريخها وحضارتها، وإنَّ أولي الأولويّات التي حان لكلِّ الأمّة أن لا تغفل عنها هو أنَّ المسلمين حُكّامًا ومحكومين بحاجةٍ ماسّة للرجوع إلى الله جلّ وعلا واللجوء إليه، فذلكم هو النّور العاصِم من التخبّط والدّرع الواقي من الاضطِراب.
وإنَّ على حُكّام العالم الإسلاميّ أن يتَّقوا الله في أنفسهم، ويستشعِروا مسؤوليّتهم نحوَ الاتّفاق على ميثاقٍ لإصلاح الأوضاعِ من رؤية إسلاميّة محمّدية، وعلى تحمّل المسؤوليّة أمام الله جلّ وعلا، والعمل على بدء مرحلةٍ جديدة في العلاقات قائمةٍ على الصراحَة والوضوح والعقلانيّة والواقعيّة، والحرص على تقويةِ القدرات الذاتيّة وتدعيمِها، مع الالتزام بمبادِئ الأخوّة الإسلاميّة الصّحيحة والتّعاون الواجب في الدّفاع عن الدّين أوّلاً والأمّة ثانيًا، وفقَ قاعدةِ الشّريعة: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة:2]. واللهَ اللهَ في الرّأي الحاذق والحِكمة المطلوبَة والعقلِ الراجِح حتى لا تقع سياسةٌ خرقاء ولا تصرّفات حَمقاء.
إنَّ على الأمّة أن تستيقنَ أنَّه لا سنَد إلا سنَدُ الله، ولا حول ولا قوَّة إلا به، ولا ملجأ منه إلاّ إليه، في محيطِ تثبيتٍ لا يتزعزع لعقيدَة التوكّل على الله، وأنَّ الأمَّة مكفيّةٌ سوءَ البلاء ما استقامَت على أمرِ الله، محفوظة من كيدِ الأعداء ما اعتصَمَت بحدودِ الله. أمّةٌ متى فقدَت الثقةَ بربِّها اضطربَت أحوالها وكثُرت همومُها وضاقت عليها المسالك وعجزت عن تحمّل الشدائد، فلا تنظرُ حينئذ إلاّ إلى مستقبلٍ أسود، ولا تترقَّب إلا للأمَل المؤلِم، وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
((يا غلام، إنّي أعلِّمُك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفظِ اللهَ تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلَم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رُفِعتِ الأقلام، وجفّت الصّحف)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"[2]، وفي رواية: ((احفَظ اللهَ تجدْه أمامَك، تعرّف على الله في الرّخاء يعرفْك في الشدَّة، واعلَم أنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، وأنَّ ما أصابَك لم يكن ليخطِئك، واعلَم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرجَ مع الكرب، وأنَّ مع العسرِ يُسرا))[3].
لا عِزَّ لهذه الأمّة ولا مَنَعة ولا سلطان ولا قوّةَ إلا بدين الله والالتزام بنهج كتابِ الله وسنّة رسوله ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ [الزخرف:44]، يقول عبد الله بن رواحة: حانَ غزوة مؤتة وعددُ المسلمين ثلاثة آلاف، وجيش الروم مائتا ألف مقاتل، يقول عن الحقيقة الغائِبة عن كثير من المسلمين اليوم: (والله، ما نقاتل الناسَ بعُددٍ ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمَنا الله به، فانطلِقوا فإنّما هي إحدى الحسنين: إمّا ظهورٌ وإمّا شهادة)[4].
نعم، إنَّ الأمّة المحمّدية أمّةٌ في أولويّات عُدَد النّصر عندها وفي مهمّات مرتكزات التّمكين لديها الانتصار على النّفس وشهواتِها وعلى حبّ الدنيا والإخلاد إليها، وإيثارُ الآخرةِ ونعيمها، قال : ((إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذنابَ البقر ورضِيتم بالزّرع وتركتم الجهادَ سلّط الله عليكم ذلاًّ، ولا ينزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) حديث رواه أبو داود وهو صحيح بمجموع طرقه[5].
لقد حانَ الوقتُ أن يستيقنَ الحاكم والمحكوم والعالِم والمتعلّم أنَّ ردَّ الأمّة إلى الجادّة وعودتها إلى ريادتِها وقيادتها مسؤولية كبرى وأمانة عظمى، يتحمّلها الجميع، كلٌّ من موقعِه، حان الوقتُ أن ندركَ أنَّ المجاملةَ لا تخدِم مصلحةً عامّة، وأنَّ التغافلَ عن الإصلاح وعن تشخيص السلبيّات بموضوعيّة وتجرّد لا يجرّ إلا شرًّا وفسادًا.
أليس في الأمّة وقائعُ غير سارّة؟! صورٌ كثيرة من الضّياع وعدمِ المبالاة بأوامِر الله جلّ وعلا، مناهجُ في حياةِ الأمّة مضطرِبة، مظاهرُ في أبناء الأمّة مرفوضة، انتشارٌ في أرض المسلمين للدّعوات السافرة والأفكار المنحلّة من علمانيّة وشيوعيّة وقوميّة وإباحيّة ومظاهر زندقة. أليس كتابُ الله وسنّة رسوله قد نُحِّيا في كثير من بلدان المسلمين عن الحكم والتحكيم في جميع المجالات والشؤون؟! وصدق رسولنا حينما يقول: ((وما لم تَحكم أئمّتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسَهم بينهم))[6]. ألم تفشُ في الأمة الأحقادُ والضغائن والتفرّق والتشتُّت، فكانت نذيرَ هلاكها وسبيل فنائها والسلاحَ البتّار الذي ضرَب به الأعداء الأمّة لتحرِق حاضرها ومستقبلها؟! أليست الأمّة قد فرّطت في ما أمرَها [به] ربُّها جلّ وعلا حينما قال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ [النساء:71]، ونسيَت ما ألزمها به خالقها حينما قال: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]؟! ألم تقعِ الأمّة في خلطٍ الموازين وترتيبِ الأولويّات، فأصبحت الوسائلُ لديها غايات، والغاياتُ عندها منسيّات؟! قدّمت المهمّ على الأهمّ والتحسينات على الضروريّات والحاجيّات، اهتمّت بالقشور واشتغلت الأمّة بتوافِه الأمور.
معاشرَ المسلمين، سنّة الله قاضيةٌ أنَّ كلَّ أمّة تستبدل الضلالَ بالهدى وتتقاعَس عن العمل المثمِر النافع لا تزال في تقهقُر وانحطاطٍ وتلاشٍ واضمحلال في فكرها وقوّتها وسلوكها.
فلا بدَّ من عودةٍ صادقة واستعادة لمواقع الصّدارة ومِقوَد القيادة. لا بدَّ من تضافرِ الجهود في تربية الأجيال على الاعتزاز المطلَق بدينها واستشعار عظمةِ رسولها . لا بدّ يا أيّها الحكّام يا أيّتها المجتمعات، لا بدّ أن يصاحبَ برامجَ حياة الأمة ما يجعلها حياة محكومةً بحكم الإسلام مضبوطةً بآدابه وتوجّهاته، والتخلّص من الأفكار وزبالة الأذهان. لا بدّ أن يستقرّ في النفوس يقينٌ جازم بأنَّ شريعة الإسلام هي دين الأمة ودستورُها في الصغير والكبير، وهو قانونُها التامّ والخالِص في النقير والقِطمير.
معاشرَ المسلمين، لقد شاهدَ العالم بأعيُنهم وسمِعوا بآذانهم الفوضى العارِمة التي لا تُعلم عاقبتُها فيما حصل في العراق الحبيبةِ المسلمة بسببِ العدوان الغاشِم السّافر وبسبَب انعدام النظام، خوفٌ وقتلٌ ونهب وسرقة وضياع للمقدّرات لا حدودَ له، ومخاوِف خطيرة الله أعلم بعاقبتِها، نسأل الله السّلامةَ والعافية لجميع بلدان المسلمين.
وهذا يوقِفنا عند وقفةٍ مهمّة، وهي أنَّ المسلمين يجِب أن يَعُوّا منهجَ النظام الإسلاميّ العظيم في الحكم، وأنّه نظامٌ يقوم على تحقيق جلب المصالح العامّة والخاصة ودرءِ المفاسد الكليّة والجزئيّة، نظامٌ يقوم على حِفظ أمور الدّين والدنيا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "يجِب أن يُعرَف أنَّ ولايةَ أمر الناس من أعظمِ واجباتِ الدّين، بل لا قيامَ للدّين والدّنيا إلا بها، فإنّ بني آدمَ لا تتمّ مصلحتُهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضِهم إلى بعض، ولا بدّ لهم عند الاجتِماع مِن رأس... ـ إلى أن قال: ـ ولهذا روِي أنّ السلطانَ ظلّ الله في الأرض، ويقال: سِتّون سنةً بإمام جائرٍ أصلحُ من ليلةٍ واحدَة بلا سلطان... ـ ثم قال: ـ والتجربة تبيّن ذلك"[7]، وقال رحمه الله: "وإن انفرَدَ السلطان عن الدّين أو الدّين عن السلطان فسَدت أحوال النّاس"[8].
ألا فليعلمِ المسلمون جميعًا أنّه لا خيرَ في الانقلابات جميعِها والاضطرابات كلّها، بل ما جرّت على المسلمين إلاّ وبالا، وما ولّدت في الأرض إلا فسادًا ودمارًا، وما خدمت إلاّ الأعداء، والمسلمون يجِب أن يعيشوا تحتَ ظلّ الإسلامِ الذي يضبِط الحاكمَ بالمحكوم وفق قاعدةِ التعاون على البرّ والتقوى، وفي ظلّ التناصح الصادق الخالص لوجهِ الله، وفي محيط منهج الشّورى، الكلّ مضبوطٌ بأوامر الله وموقوف عندَ حدودِه، قال : ((خيار أئمَّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرارُ أئمَّتكم الذين تبغِضونهم ويبغِضونكم، وتلعَنونهم ويلعنونكم))، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابِذهم بالسّيف؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) الحديث. رواه مسلم[9].
أمّة الإسلام، مِن منهج الإسلام المتكامِل أنَّ نظامَ الحكم في الإسلام نظامٌ مثاليّ لا يماثله نظام، فرِعاية الرعيّة مسؤوليّة عظمى وأمانَة كبرى، يقول الحبيب : ((ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيّة يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنّة)) متّفق عليه[10]، وفي رواية: ((فلم يحطها بنُصحه لم يجِد رائحةَ الجنة))[11].
منهجُ الحُكم في الإسلام منهجٌ يقوم على الرّفق، يقول النبيّ : ((اللهمّ من ولي من أمرِ أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمرِ أمّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) رواه مسلم[12].
منهجٌ يقوم على العدلِ بكلّ صوَره، فمِن السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه إمامٌ عادل[13].
منهَج يقوم على منعِ الظلم والجَور بشتّى أشكاله، ففي المسند بسند صحيح: ((ما مِن أمير عشرَة إلا يؤتى يومَ القيامة مغلولاً، لا يفكّه إلا العدل أو يوبِقه الجَور))[14]. فالظّلم للحاكِم والمحكوم عاقبتُه وخيمة ونهايتُه مأساويّة مصيريّة، قال : ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يُفلِته))، ثم قرأ: وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] متفق عليه[15]، ويقول ابن عباس رضي الله عنها: (لو بغى جبلٌ على جبَل لجعل الله الباغي دكًّا)[16].
ذكر الخطيبُ في تاريخ بغداد عن محمد بن جعفر أنّه قال: قال أبي لأبيه يحيى بن خالد بن برمَك وهم في القيود والحبس: يا أبتِ، بعدَ الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهرُ إلى القيودِ ولبس الصوف والحبس! قال: فقال له أبوه: يا بُنيّ، دعوةُ مظلوم سرت بليلٍ غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها[17]. والقصَص الواقعيّة والعبر التاريخيّة القريبة والبعيدة طافِحة بمثل هذا.
وما مِن يدٍ إلاّ يدُ الله فوقَها وما ظالمٌ إلاّ سيُبلَى بظالمِ
يقول شيخ الإسلام: "وأمورُ النّاس تستقيم مع العدلِ الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثرَ ممَّا تستقيم مع الظّلم في الحقوق وإن لم تشترِك في إثم، ولهذا قيل: إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانت كافِرة، ولا يقيم الظالمةَ وإن كانت مسلمة، ويقال: الدّنيا تدوم مع العدلِ والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والإسلام" انتهى[18].
فالوَيل ثمّ الويل لمن كان لعباد الله ظلومًا، وللمسلمين مضطهِدًا شِرِّيرًا، قال : ((إنّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون النّاس في الدنيا)) رواه مسلم[19].
أمّة الإسلام، لقد انخدَع كثير من العالَم بعباراتٍ مزوّقة ومصطلَحات زائفة فقالوا عن الإسلام بهتانًا وزورًا، وعكسوا الأمورَ، وقلبوا الحقائق. مصطلحاتٌ يُصدّرها الأعداءُ ويقبَلها الأغبياء. أينَ من يسِم الإسلامَ بالإرهاب عن الواقِع الحالي الذي دار ويدور وما هو عنّا ببعيد؟! أين أولئك الحاقدون على الإسلام ليقارِنوا بين هذا الواقِع وأمثاله وبين تعاليمِ الإسلام وتأريخ الإسلام؟!
فالحربُ في الإسلام لم تُشرَع لنيل مصالحَ آنيّة أو مآربَ دنيويّة أو أطماع دوليّة. الحربُ في الإسلام شُرعت لأهدافٍ نبيلة من دعوةٍ إلى التوحيد، ومن دفعِ الفتنة عن الدين، وردعِ العدوان وصَدّ الطغيان، وحينئذ فهي حروبٌ نظيفة نزيهة، لا تهدّد حياةَ الناس من أطفال ونساءٍ وأبرياء ولا تظلمهم [ولا ترهِبهم]، فمن وصايا المصطفى لأصحابِه أن لا يُتلِفوا زرعًا، ولا يقطَعوا شجرًا، ولا يقتُلوا ضعيفًا: ((سيروا بسم الله في سبيل الله، قاتِلوا أعداءَ الله، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[20]، ويقول لخالد: ((لا تقتل ذرّيّةً ولا عسيفًا))[21] أي: عاملاً، ورأى امرأةً مقتولة فقال: ((ما كانت هذه لتُقتَل))[22].
وأمّا معاملتُه للأسرى فحدّث ولا حرج عن الأخلاقِ النبيلة والمعاملة السامية العظيمة، فقد قال للذين آذوه واضطهدوا أصحابَه وساموهم سوءَ العذاب حين أسرهم: ((اذهبوا فأنتم الطّلقاء))[23]، ويقول : ((استوصُوا بالأسرَى خيرًا))[24].
فمَن هو أولى بالإرهاب إذاً؟! ومَن هو الفائزُ بحقوق الإنسان حينئذ؟! التاريخ خيرُ شاهد، والواقع أصدق برهان، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [سبأ:24].
معاشر المسلمين، إنّ استعلاءَ المادّة وغرورها وبريقها حينما تُعرَض على الإيمان بسنّة الله في خلقه فذلكم غرورٌ بالنّفس وخداع موهوم. إنَّ البشر متى سَعَوا في إطار التمرّد على الأسبابِ الكونيّة وخرجوا عن الإطار الإيماني الأخلاقيّ متصوّرين تصوّرًا يخرِجهم عن تصوّر بشريّتهم ومتى طغى البشر فلا بدّ من نهايةٍ مقرّرة وفقًا لسنّة الله التي لا تُحابي أحدًا.
فما أحوجَ العالمَ كلّه إلى تدبّر ما قصَّ الله، وأن يعتبرَ به، وأن تبنيَ البشريّة حياتَها ونظامَها على وفقِ سنّة ربّها وهديه، فلكلّ ابتلاءٍ انجلاء، ولكلّ علوٍّ نهايَة، ولكلّ جبّار قاصِمة، فمن يقرَأ التاريخ بتمعّن وموضوعيّة ومن يتمَعّن في قراءة تجارب البشريّة يعلم أنَّ كلَّ قوّة بشريّة مهما بلغت قوّتها وعلا جبروتها تسودُ ثمّ تبيد، وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:34]، ويقول فيما يرويه عن ربّه: ((العزّة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيها عذّبته))[25].
أقول هذا القول، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: تاريخ الطبري (4/458)، ومعجم البلدان (1/458)، والبداية والنهاية (10/97).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أحمد (1/293)، وصححه الحاكم (3/541-542)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[3] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[4] أخرجه الطبري في تاريخه (2/150)، وأبو نعيم في الحلية (1/119)، وعزاه الهيثمي في المجمع (6/159) للطبراني وقال: "رجاله ثقات".
[5] أخرجه أبو داود في البيوع (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/42، 84)، والروياني (1422)، وأبو يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (12/432، 433)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[6] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[7] السياسة الشرعية (ص 136-137).
[8] السياسة الشرعية (ص 140).
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الأحكام (7151)، ومسلم في الإمارة (142) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
[11] هذه الرواية عند البخاري في الأحكام (7152).
[12] أخرجه مسلم في الإمارة (1828) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[13] حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (2/431)، والدارمي في السير (2515)، وأبو يعلى (6614، 6629)، والطبراني في الأوسط (272)، والبيهقي في الكبرى (10/95، 96) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (7009)، وجوده المنذري في الترغيب (3/121)، وقال الهيثمي في المجمع (4/193): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2621).
[15] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (588)، وأبو نعيم في الحلية (1/322) عن مجاهد عنه، وصححه الألباني في صحيح الأدب (457)، وروي عن مجاهد مرسلا، قال ابن أبي حاتم كما في علل ابنه (2/341): "حديث مجاهد عن ابن عباس قوله أصح".
[17] تاريخ بغداد (14/131).
[18] الاستقامة (2/246-247).
[19] أخرجه مسلم في البر (2613) من حديث هشام بن حكيم رضي الله عنه.
[20] أخرجه مسلم في الجهاد (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه بنحوه.
[21] أخرجه أحمد (3/488)، وأبو داود في الجهاد (2669)، والنسائي في الكبرى (8625، 8626)، وابن ماجه في الجهاد (2842) من حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه، وعند أبي داود امرأة بدل ذرية، وصححه ابن حبان (4789)، والحاكم (2565)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2294).
[22] هو جزء من الحديث السابق، والمشهور في روايته: ((ما كانت هذه لتقاتِل))، واستدل به الجمهور على جواز قتل المرأة إذا قاتلت.
[23] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[24] أخرجه الطبراني في الصغير (409) والكبير (22/393) من حديث أبي عزيز بن عمير رضي الله عنه، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (6/86)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (932).
[25] أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
|