أمّا بعد: فاتَّقوا الله عباد الله، اجعَلوا تقواه شعارًا لكم ودِثارًا، واستشعِروا مراقبتَه سرًّا وجهارًا، يفتحِ الله لكم بها من الخير أبوابًا وسدودًا، ويَحلُّ بها من الضّيق أوثقةً وقيودًا، يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الأنفال:29]، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
وبعد: أمّة الإسلام، أمّةَ الهادي محمد بن عبد الله، أمّةَ الصحابة الفاتحين والسّلف البانِين، أمّةَ العلم والحضارة والسِّلم والإغارة، تمرُّ أمّتكم اليومَ بعصرٍ ليس هو أحلكَ عصورها، وسنينَ ليست هي أتعسَ سنينها، لقد رَأت هذه الأمّة في تاريخها الطويل من مواقفِ النّصر والهزيمة والنَّحس والسّعْد ما تراه كلُّ أمّة، ولكنَّ الخاتمةَ الثابتة في كلٍّ حسنُ العاقبة وخير المآل. وأعيدوا النظرَ في التاريخ تجِدوه ناطقًا بهذا بأبلغِ لسانٍ وأوضح بيان.
ألم يرمِنا الشّرقُ بدواهيه، فساق إلينا جيوشَ التّتَر كالسّيل الأطمّ، يحطُّ على بلدان الإسلام العامِرة، كما يحطّ الجرادُ على الحقول الزّاهرة، حتّى أبادت هذه الجيوشُ الممالك، وبلغَ هولاكو عرشَ الخليفة ببغداد، فذبح الخليفَة، وهدَّ العرش، وقوَّض الدّولة، فإذا بغدادُ العظيمة حاضرةُ الدنيا وعاصمة الإسلام دمارٌ بعد عمار، وخرابٌ وأطلال، ثمّ ساحوا في الأرض لا يردُّهم شيء، حتّى حسِب الضّعفاء أنّها نهايةُ الإسلام، فنُعِي الإسلام على المنابر، ورُثي المسلمون في الدّفاتر، حتّى قال مؤرّخ الإسلام ابنُ الأثير رحمه الله: "لقد بقيتُ عدّةَ سنين معرِضاً عن ذكرِ هذه الحادثةِ استعظامًا لها، كارِهًا لذكرها، فمَن الذي يسهُل عليه أن يكتُب نعيَ الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكرُ ذلك؟! فيا ليتَ أمي لم تلِدني, يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا. هي الحادثةُ العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمَت الليالي والأيام عن مثلِها، عمَّت الخلائقَ وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إنَّ العالَم منذ خلق الله تعالى آدمَ إلى الآن لم يُبتَلَوا بمثلها لكان صادقًا، فإنَّ التواريخ لم تتضمَّن ما يقارِبها، ولا ما يدانيها" انتهى كلامه رحمه الله[1].
ولكنَّ الذي لم يدرِكه ابنُ الأثير ولم يُلحِقه بمقولتِه تلك أنَّ الإسلامَ طوى التّتر تحتَ جناحِه، وظلّلهم برايتِه، وانطوَوا تحتَ لوائِه، فانطلقوا فاتحين لبلادِ الهند، فألحقوها بدِيار الإسلام وأهلَها بالمسلمين، وصارَ منهم الملوكُ العادلون والقادَة الفاتحون، وغدَوا عُمقَ أمّتِنا في المشرق، ونُسِيت المصيبة حتّى لا يدري أكثرُ النّاس اليومَ ما خبرُ التّتَر.
ألم يقذِف إلينا البحرُ المتوسِّط سفائنَ النصارى تحمِل السيفَ والصّليب، فبسطوا نفوذَهم على الشام، وأقاموا على كلِّ جبلٍ قلعة، وفي كلِّ وادٍ حامِية، فما هي إلا سنواتٌ حتى ساقتهم الجيوش المسلِمة إلى أسوارِ فْيِنَّا عاصمةِ النّمسا.
ألم يأتِ الغزاةُ في العصور المتأخِّرة إلى بلاد المسلمين بزعمهم مستعمرين، ولم تبقَ أرضٌ لم تطأها أقدامُهم إلا وسطَ جزيرة العرب، واستحكمت غربةُ الدّين، وغابت أو ضعُفت علومُ المسلمين، ثمّ حال بهم الحال إلى أن كانوا كسحابٍ استدبرته الريح، فعادَ في السّماء مِزَعا[2]، وقامت على أطلالِهِم صَحوةٌ دينيّة، وأعقبت جلاءَهم تخَطِّينا في مراقي المدنيّة.
فكم لهذِه الأمّة من وثباتٍ بعد كبَوَات وإغارات بعد غَفَوات، كيف لا؟! وهي الأمّة المرحومةُ المنصورة التي لا يُدرَى خيرها في أوّلها أو في آخرها، كما نطق بذلك المعصوم [3]. فهي أمّة تمرض ولا تموت، وتُجرَح ولا تُذبَح.
أيّها المسلمون، إنَّ أعظمَ ما يُمكِن أن يواجِهه المسلم في وقتِ الأزمات والفِتن خلخلةُ قناعتِه بهذا الدّين وضعفُ ثقته بربِّ العالمين، فهذه ـ وربِّي ـ الطعنةُ النّجلاء، والتي يهون دونَها سلبُ الدّيار وفوات الأعمار.
إنَّ مِن سنن الله تعالى في خلقه بقاءَ الصّراع بين الحقِّ والباطل؛ ليميزَ الله الخبيثَ من الطيّب، وليصطفيَ بالتّمحيص أهلَ الإيمان، وليرفعَ بالابتلاءات درجاتِهم، وما يجري للأمّة مِن أحداثٍ ضِخام تنطوي على أمورٍ قد تكرهُها النّفوس وأحداثٍ تضيق بها القلوبُ سيكون مآلها الأخير ـ بإذن الله ـ النصرُ والعزّة للمسلمين، والتمكينُ لعباد الله المؤمنين، وانقشاع أسبابِ الذلّة والهوان، فهذه الأمّة ليست كغيرِها، فهي الأمّة الموعودَة بالنّصر والعاقبة، وهي الأمّة المحفوظة من الهلاكِ العامّ، وهي أمّة الاستعلاء رغمَ الجِراح، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ [آل عمران:139]، قالها الله تعالى لجيش الإسلام وقد خرجَ للتَّوِّ من معركةِ أحُد، وقد خلَّف سبعين شهيداً من خِيرة رجالِه مجندَلين على سفحِ أحد، وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ قالها الله سبحانَه لأمّة الإسلام وجراحُها تثعب ونبيُّها مشجوج الجَبين مكسورُ الرّباعية، وذلك لأنّ الله تعالى كتب العزّة والعلوََّ والرِّفعة لهذه الأمّة في كلِّ أحوالها، في انتصارِها وانكسارها، في قلَّتها وكثرتِها، ما دامت مؤمنَة، وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يجب اعتقادُه وتذكيرُ النّفسِ به خصوصًا في أوقات الشّدائد والمِحن أنّه لا يقع في هذا الكونِ حادثٌ صغير ولا كبير إلا بعلمِ وتقدير وتدبيرِ اللطيفِ الخبير، وأنّه لا يخرج عن قدَر الله وقدرتِه شيء في السموات ولا في الأرض، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
الأسبابُ والنتائج من صنعِه وتقديره، والوسائلُ والغايات من خلقِه وتدبيرِه.
إذا علمنا ذلك كان لِزاماً علينا الفرارُ إلى الله والاعتصام بحبلِه وطلب النجاةِ والنصر من عنده، فهو سبحانه الذي يعطي ويمنَع ويخفض ويَرفع، وقد جعل في خلقِه نواميسَ وسُننًا، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
ومِن سننِه سبحانه أن يبتليَ عبادَه ويمحِّصَهم، ثمّ يجعل العاقبة لهم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
وما يقَع على الأمّة من بلايا ومِحن ومصائبَ وفِتن لهِي حلقةٌ في سلسلة التّمحيص، وطريقٌ إلى التمكين، فلا يجوز أن تكونَ هذه الأحداثُ سبيلاً إلى اليَأس والإحباط، وإن تداعَت علينَا الأممُ كما تداعَى الأكلَة على قصعتِها، بل إنّه بقدْر ما فيها من شدّة وضيق فإنَّ في طيَّاتها خيرًا كثيرًا، وفي ثناياها لله حكمةً وتدبيرًا، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
ولقد كانَ من هدْيِ النّبيّ في الشدائد التبشيرُ والتّشجيع وضربُ المثلِ بالسباقين إشارةً إلى سنّة الله تعالى في خلقه، يقول خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه: شكَونا إلى رسول الله وهو متوسِّدٌ بردَةً له في ظلِّ الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصِر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجلُ فيحفَر له في الأرض، فيجعَل فيها، فيُجاء بالمِنشار، فيوضَع على رأسه، فيجعَل نصفين، ويمشَط بأمشاطِ الحديد ما دونَ لحمِه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. واللهِ، ليتمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يأتي الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمِه، ولكنَّكم تستعجلون)) رواه البخاري[4].
والنبيّ يبيِّن لنا بذلك أن المستقبلَ لهذا الدين، وأنَّ العاقبة للإسلام والمسلمين، ولا يجوز إطلاقًا أن نشكَّ في ذلك، هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [الصافات:171-173]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51]، عن تميم الداريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يذلّ الله به الكفر)) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح[5].
أمّةَ الإسلام، إنَّ يقينَنا بالنّصر وثقتنا بوعد الله تعالى وظهور البشائر بذلك لا يعنِي القعودَ والاتكال، كما لا يعني غضَّ الطرف عن الخطأ والخللِ والنّقص والتقصير الذي لا زال موجودًا في الأمّة، بل الواجب مع إذكاءِ جانبِ الثقة بوعدِ الله العودةُ الصّادقة إلى الله سبحانه، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، والله تعالى لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم. إذًا فالتّغيير يأتي من الدّاخل ومن إصلاح الذات، وسنةُ الله لا تتخلَّف.
إنَّ أمّةً نزل البلاء في نواحيها واستهدفها العدوُّ في دينها وأراضيها يجب أن تكونَ أبعدَ الناس عن اللهو والترفِ والركون إلى الدنيا وزينتِها، وأن تصرفَ جهودَها وطاقاتِها للتقرّب إلى خالقها وباريها، وأن تخلِصَ له الدّين، وتوحِّد لله ربِّ العالمين، وأن تقلِعَ عن المعاصي والشهوات، وتهجُر الذنوبَ والمنكرات، فهي التي أبحرت بفئامٍ من الأمّة إلى بحارٍ من الظّلمات، كما يجِب على كلّ مسلمٍ أن يتذكَّر دائِمًا أنّه لا طريق لسعادةِ الدنيا والآخرة ولا سبيلَ إلى الفوز والفلاح والأمن والنّجاح إلا بالتمسّك بصراط الله المستقيم، وتحكيمِ أمر الله ونهيه، وتقديمِ حكمِه وشرعِه في كلِّ التصرّفات والتصوّرات في النّفس وفي الجماعة، وأنَّ العبدَ لا يكون مؤمِنًا حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي ، وهذا يقتضي عودةً صادقة إلى منهَل الوحي الصّافي، وتمسُّكًا حقيقيًّا بالكتاب والسنّة، واتِّباعًا لهدي النبيّ في كلِّ الأمور، بعيدًا عمَّا تمليه أذهانُ البشر، أو معارضةِ الوحي بالاستحسان والنظر.
إنَّ الإسلامَ ـ أيها المسلمون ـ دينٌ حيٌّ يبعث الحياةَ فيمن يحسِن الأخذَ به، فإذا أتى جيلٌ معرِض أو مُغرض احتفظ الدّين بحيويّته حتّى يسلمَها إلى جيلٍ ما زال في سُدُف الغَيب ورحِم المستقبَل، ليأخذَ الكتاب بقوَّة، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم [محمد:38].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] الكامل في التاريخ (10/399).
[3] أخرجه أحمد (3/130، 143)، والترمذي في الأمثال (2869) من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: ((مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره))، وقال الترمذي: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال الحافظ في الفتح (7/6): "حديث حسن، وله طرق قد يرتقي بها إلى الصحة"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2286).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3612).
[5] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
|