أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول ربّنا جلّ وعلا وهو أصدق القائلين: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
أيّها المسلم، إذِ اختارَك الله للإسلام وهداك للإسلام فاحمَد اللهَ على هذه النعمة، فإنّها النعمَة العظمى والمنّة الكبرى.
أيّها المسلمون، أتدرون ماذا قال ربُّنا لنبيّنا لما تفضّل عليه بهذه الشريعة الكاملةِ التامة الشاملة لخيري الدنيا والآخرة؟! قال له: ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
أجَل أمّةَ الإسلام، هذا امتنانٌ على نبيّنا ، وتذكير له بحقِّ هذه الشريعة أن يلزمَها علماً وعملاً، وأن لا يُصغيَ إلى أهواء الضالين والمغرضين أعداءِ الشريعة قديماً وحديثاً. وهو خطابٌ له ولأمّته جميعاً إذْ هداهم لهذا الدين أن يقبلوه عِلماً وعملاً، وأن يعضّوا عليه بالنواجذ، وأن يحمَدوا الله على أن هداهم للإسلام، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ [الأعراف:43]، فالحمد لله على نعمةِ الإسلام.
أمّةَ الإسلام، شريعةُ الإسلام بيّنت لنا أن المنفردَ بالخلق والرزق والإحياء والإماتةِ بلا شريك هو المستحقُّ لأن تُصرَف العبادة له وحدَه دون ما سواه، فلا يستحقُّ العبادةَ مخلوق مهما كان؛ نبيّ مقرَّبٌ أو ملك مرسَل.
شريعةُ الإسلام بيّنت لنا أن المتصرِّف في كلّ الأحوال على أكمَل الوجوه هو الذي يجِب أن يُطاع فلا يعصَى، وأن يذكَر فلا ينسَى، وأن يُشكَر فلا يكفَر.
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أن ربَّنا وخالقَنا بعث محمَّداً بالهدى ودين الحق، وجعل كلامَه وفِعله وتقريره وحْياً أوحاه إليه، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ [النجم:3، 4].
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أن الحُكمَ والتحاكم بين أمَّة الإسلام إنّما هو لشريعة الإسلام العادِلة المُصلحةِ الصالحة لكلّ أمّة وجيلٍ من الناس، وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ [الشورى:10].
شريعةُ الإسلام ـ أيّها الإخوة ـ بيَّنت لنا أنَّ من تمسَّك بهذه الشريعة وعمل بها بإخلاص ويقينٍ فله جزاءُ الحسنى في الدنيا والآخرة، مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
شريعةٌ نسخ الله بها كلَّ الشرائع، وجمع فيها خيرَ ما مضى من الشرائع، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ [المائدة:48].
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا فضلَ المؤمن، وأنَّ المؤمنَ أطهرُ وأنقى وأصدَق وأزكى مَن على وجهِ الأرض بهذا الدّين الذي منَّ الله به عليه، لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:9، 10].
شريعةُ الإسلام شريعةٌ شامِلة في العبادات والمعاملات والأخلاق، شريعةُ السّماحة واليُسر، شريعةُ العدلِ والإنصاف وإيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
شريعةٌ رفَع الله بها الآصارَ والأغلال عنّا، تِلكم الآصار والأغلالُ التي [كانت] على من قبلنا، ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأمّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
شريعةٌ كَمُلت في كلِّ أحوالها، فمَن منَّ الله عليه بِها فليعلمْ أنها النعمة العظمى من ربِّ العالمين، فالحمدُ لله ربِّ العالمين على كلّ حال.
أمّة الإسلام، يتفوَّهُ بعضُ قاصري العلمِ والمعرفة ـ إمّا أحياناً من بعض أبناء المسلمين، وقد يكون مِن أعداء المسلمين ـ بدعوةِ الأمّة الإسلامية إلى الحرّيّة المدنيّة فيما يزعمون، ماذا يريد هؤلاء من هذه الحرّيّة المدنيّة؟ ماذا يقصِدون ويهدِفون مِنها؟ كلمةٌ لها احتمالات لدى أولئك، يقولون: ننادي بحرّيّةٍ في الفِكر والرّأي والدّين، يتكلّم الإنسانُ بما شاء متى شاء وإذا شاء، بلا وازِعٍ إيمانيّ ولا رادِع سلطانيّ، يقولون: كلٌّ يعبِّر عن رأيِه، وكلٌّ يُخبر عمّا في نفسِه، سواء كان ذلك موافِقاً لشرع الله، أو كان مناقِضاً لملّة الإسلام، أو كانَ هذا الرّأي رأيَ ملحِدٍ وزنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، هكذا يزعُم دعاةُ الحرّيّة، ويأبى الله على المسلمين ذلك.
فالمؤمِنون آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا رسولا، رفعَنا الله بالإسلام، وأكرمَنا بالإسلام، فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضّلال فأنّى يؤفكون؟ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]. فأهلُ الإيمان أهلُ تصديق ورضاً بالله وبشرعِه وانقيادٍ له وحَمل النّفوس على ذلك، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظّالم، ولتأطرنَّه على الحقِّ أطرا، أو ليوشِكنَّ الله أن يضربَ بعضُكم برقابِ بعضٍ، ثمّ يلعنكم كما لعنهم، لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
يقولون: حرِّيةٌ في التّحكيم والقضاء، وأنَّ القولَ لجمهور النّاس وكثرةِ الناس مهما كانت الكثرة، على حقِّ أم باطل، وذا مناقضٌ لحكم الله، أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فالحكمُ لله وحدَه، والتّحاكمُ إليه وحده، هكذا المسلمون الذين رضُوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا رسولاً.
يقولون أيضاً: إنَّ المرأةَ لم تُعطَ في الإسلام حرّيّتَها، وما هي حرّيّتُها لدى أولئك؟! حرّيّتُها أن تتحرَّر من القيودِ الشرعيّة التي أرسلتها الشّريعة إليها، تتحرَّر من عِفَّتها وصيانتِها وحشمتِها وكرامتِها وتستبدِل الذي هو أدنى بالذي هو خير، تستبدِلَ الباطلَ بالحقّ، وتعتاضَ عن الحِشمة والكرامة والصيانة بالسّفور والتبرّج والخروج عن منهجِ الشريعة التي كفَلت لها في أربعةَ عشر قرناً هذه الفضائلَ والكرامة، وصانَتها وحفِظتها من تلاعبِ الأراذل بها، حفظت المرأةَ، وحفظت الأنسابَ، وحاطَتها بعنايةٍ عظيمة.
أيّها المسلم، هذه الشريعةُ اعتنَت بالضّرورات الخمس، فجاءت لحمايةِ الدّين والمالِ والعِرض والعقل والنّفس، وتوعّدت من تعدّى على حدودِ الله، والمسلمون يلتزمون شرع الله.
أيّها المسلم، نقول لهؤلاء: دعوى الحرّيّة دعوى باطلةٌ، إنّما هي شعار وآلة يتستَّرون من ورائِها، ونحن المسلمون على دين الإسلام إن شاء الله ثابِتون، وعلى تحكيمِ شرع الله ماضون. إنَّ هذه الحريةَ أداة يقولونها من غير تعقّل لمعناها، ومنهم من يقولها من بابِ ما في قلبِه من مرضِ النفاقِ والعياذ بالله.
هذه الحرّيّةُ نرى تناقضَ أربابِها، ورموزُها وحملةُ لوائِها هم الذين أذهَبوا حقيقةَ الحرّيّة فيما يتعاملون، فتعاملُهم لا يخضَع لدينٍ ولا لخلُق ولا لعُرف في حربِهم وسلمهم؛ لأنَّ هذه الحرّيّة عندما لا تتَّفق مع مصالحهم فلا اعتبار ولا ميزان لها.
نحن المسلمون لا ننخدِع بهذه الآراءِ، فعندنا شرعُ ربّ العالمين، عندنا كتابُ ربّنا وسنّة نبيّنا ، فيهما الكفاية والخيرُ لمن فهِمهما واطمأنَّ إليهما وحكَّمهما وتحاكمَ إليهما. هذه الحرّيّة الزائفةُ هي شعاراتٌ أوّلُ من جنى عليها ونقضَها من خطّطوا لها ودَعَوا إليها، والمسلم مؤمن بالله حقاً، إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا أن لا يكونَ لنا خِيَرة في أمره وأمرِ رسوله، بل أمرُ الله وأمر رسوله نلبّي [له] ونسمع ونطيع، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
فاستقيموا على طاعةِ الله، واعمَلوا بشرع الله، ولا تخدعنَّكم الأفكار والآراءُ التي يدلِي بها إمّا عدوٌّ للإسلام، وإمّا جاهل به وبحقيقتِه، يقول ما يقوله الآخرون من غيرِ رويّةٍ وتعقّل في ذلك.
أسأل الله أن يثبّتنا جميعًا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن نلقى الله ونحن على هذا الدين، غيرَ مبدّلين ولا مغيّرين، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|