أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحِمكم الله، فاللّبيب من تفكّر في مآله، والحازمُ من تزوّد لارتِحاله، والعاقلُ من جدّ في أعمالِه، نظر في المصِير، وجانَب التّقصير، ترك الحُطام، واجتنَب الحرام، فخُذوا بالأحزم مِن أموركم رحمكم الله، فأمامَكم يومٌ لا ينفع فيه النّدم، ولا يُفيد فيه الأسَف إذا زلّت القدم، يوم تُبعثون، يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].
أيّها المسلمون، إنّها أيّامٌ حزينة وأوقاتٌ عصيبة وصفَحات من التّاريخ مظلِمة، تواجِه الإنسانيةُ جمعاء إشكاليّة اختلاطِ الحقّ بالبَاطل واختلالِ موازين العدلِ واضطراب معايير الحكم، وكأنَّها في ليلٍ بهيم، أو في نفقٍ مظلِم، أو في صحراءَ من التِّيه واسِعة. يتساءلُ المتسائِل ويحَار العاقِل عن حقيقة ما يجري.
إنَّ أممَ الأرضِ اليومَ أمام اختبارٍ شديد، إنَّ على هذا العالَم وهو الموصوف بالمتحضِّر وهو الذي يرسم معالمَ التقدّم، عليه أن يرتقيَ بإحساسه ونظرتِه الإنسانيّة إلى ما هو جديرٌ به من وصفِ التحضّر والمدنيّة، لا بدّ من علوّ صوتِ العقل والاحتكام إلى ميزانِ العدلِ وسلوك مسلَك الإنصاف.
حربٌ مسْتعِرة ومعاركُ ضارية، يدور رحاها في أرضِ العراق المسلِم الشّقيق. جُثثٌ متناثرة، وأشلاء ممزّقة، وآخرون مفقودون، وآخرون مأسورون ومحصورون. مآسي ونكَبات، وقتلٌ بالمئات، وتكريس لكلّ آلياتِ الدّمار، بل غرسٌ للكراهية، وتكريسٌ للأحقاد، وتكدِيس للضّغائن، ونشرٌ للبغضاء، وتجاوزٌ للأعراف والمعايير والقوانين.
يجِب إيقافُ هذه الحرب فوراً، والتوقّف عن هذا الاعتداء. إنّها حربٌ خاسِرة، ليس فيها رابِح.
إنَّ الحقّ والعدلَ والإنصاف يقتضي الوقوفَ مع الشّعب العراقيّ المسلم في مأساته ورفع مُعاناته.
يجِب على عقلاءِ العالم وأصحاب القرار من كلّ مكانٍ أن يُدركوا العواقبَ الوخيمة والآثارَ المدمِّرة من الكراهية والعداوة والبغضاء، يجِب التجاوُب مع نداءات العالَم وصوت ضمير الإنسانيّة.
نعم، إنَّ عالمَ اليوم يحتاج إلى المواثيق العادِلة والاتفاقياتِ الواضحة، والتي يخضَع لها الجميع، لا يُستثنى منها أحدٌ من دوَل العالم كلّه، صغيرِه وكبيره، قويِّه وضعيفِه، ناميه ومتقدِّمِه، كما يحتاج إلى النّوايا الطيّبة والتعاون الجادّ الصادِق من أجلِ إسعاد الناس جميعاً. يجِب إطعام الجوعى وعلاجُ المرضى وبثّ الأمن ونشرُ العلم ومكافحة الجهلِ وبثّ العدلِ وتثبيتُ الحق، يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، هذا هو النداء للعالَم أجمَع.
أمَّا النّداء لأمّتنا فيجِب نبذُ الخلاف وتوحيد الرّأي والوقوفُ صفّاً واحداً في مواجهَة المتغيّرات العالميّة والثبات على نهجِ الوَحدة القائم على التّوحيد وتحقيق الحريّة الحقّة بإخلاصِ العبوديّة لله ربّ العالمين.
إنَّ رهانَ الشرّ على الأمّة كان ولا يزال وسيظلّ متوجّهاً إلى محاولة زعزعَة الصفوف والنيل من وحدتِها، وقد قال لها ربّها: وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:46].
وحدة لا يذّل فيها مظلوم، ولا يشقى معها مَحروم، ولا يعبَث في أرضِها باغ، ولا يتلاعب بحقوقِها ظالم.
إنَّ الوحدةَ والتضامنَ تضحيةٌ ومسانَدة وشدّ على الروابط والأواصر وصدق في المواقِف وتوافُقٌ في الآمال والآلام مهما كلّف ذلك من متاعبَ ومصاعِب.
أيّها المسلمون، إنَّ جُلّ الخلاف الذي فرّق الأمّةَ يرجع إلى داخلِ نفسها. إنَّ كثيراً منه يرجِع إلى طغيان الهوى وحبّ الغلبة والرغبة في الاستبداد وتتبّع الزّلاّت وإشهار الهفوات، مع ما يقتون بذلك ويصاحِبه من سوءِ الأدبِ في الحديث والحِوار والهَمز واللّمز والغيبة والنّميمة عياذاً بالله، وهذا كلّه يولّد غفلةً شنيعة عمّا يعقب الانقسامات الصغيرة من مُضاعاتٍ جسيمة، هي المُهلكة وهي الحالِقة.
أيّها الإخوة المسلمون، إنَّ الأمّة لا تُصاب مِن الخارِج ولا تُحيط بها الشّدائد ولا تلحَقها النّكبات إلا بعدَ أن تُصاب من الداخل. إنَّ الحصنَ الحصين للأمّة في هذه الأزمة من الدوّامات المتلاحِقة يكمُن في الإيمان بالله وحدَه وصدق التوكّل عليه وحُسن الاعتمادِ عليه وتفويض الأمورِ إليه والاستمساك بشرعه، ثمّ في تآزرِ المجتمع وتماسُكه.
الأزمات والأحداثُ تحتاج أوّل ما تحتاج إلى رصّ الصّفّ وصِدق الموقِف والتّلاحم حتّى يفوتَ على الأعداء والعُملاء فرصتُهم في البلبَلة وبثّ الفُرقة وذهاب ريح الأمّة.
معاشرَ الإخوة، وفي هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال يجِب الحذَر ثم الحذرُ عمّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال وشبكات المعلومات من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة والفضاءات التي تُمطِر أخباراً وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ. لا بدّ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.
إنَّ الأراجيفَ والشّائعات التي تنطلق من مصادرَ شتّى ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعى إلى إثَارة النّعَرات والأحقادِ ونشر الظنون السيّئة وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء.
الإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيَد المغرِضين وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُه أصحابُه لزلزعةِ الثوابِت وهزّ الصّفوف وخلخلَة تماسُكها.
عبادَ الله، الأمّة تعيش أزماتٍ وهزائمَ وإحباطات، وهؤلاء الخفافيش سامدون، يضحكون ولا يبكون، في منتدياتِهم يتسامَرون، وفي أجواء من الجدَل العقيم يتفيقهون، وفي الشائعاتِ والأراجيف والتحليلات البارِدة يخوضون. ديدَن أكثرِهم التلاسُن في تجمّعاتهم وقنواتِهم ومواقِعهم وصفحاتِهم وكتاباتهم، ممَّا ولّد موتَ الشعور وعدمَ الاكتراث بأحداثِ الأمّة وهمومِها ومصيرها. شائعاتٌ وأراجيف يقذِفون بها في مجالسَ عامّة ومنتدياتٍ مفتوحة، لا تثبُت أمام التّحقيق ولا تقِف أمام التحرّي.
الشائعاتُ في أوقاتِ الفتن تُنبث الذّعر، وتزرَع الكراهية، وتحطّم الروحَ المعنويّة، وتثير عواطفَ الجماهير، وتُبلبل الأفكار، وتفقِد الثقةَ بالنفس والأمّة والقيادة، وتنشر الضّغائن، وتصدّع الكَيان، كم أقلقَت من أبرياء، وهدّمت من وشائج، وسبَّبت من جرائم، وقطّعت من علاقات، وأخّرت أقواماً، وعطَّلت مسيرَة، وهزمت جيوشاً.
أيّها المسلمون، وغالباً ما تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ، فرداً أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه، وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ أو عميل مندَسّ أو غِرٍّ جاهل.
معاشرَ الأحبّة، وليس الخطاب مع العدوّ والحاقِد ولا مع العميل المأجور، ولكنّه خطابٌ مع هذا المسلمِ الغافِل، حسنِ الطويّة، صالحِ النيّة، المخلِص لأمّتِه ودياره، إنّه طيّب حسنُ النية، لا يدرك ما وراء الشائعة، ولا يسبُر الأبعادَ التي ترمي إليها تلك الأراجيف.
على هؤلاء الطيّبين الصالحين ـ وفّقهم الله ـ أن يتّصِفوا بالوعي الشّديد والحصافة في الفهمِ وسلوك مسالك المؤمنين الخُلَّص في اتّخاذ الموقف الحقّ من الشائعات، ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
على هؤلاءِ الطيّبين الأخيارِ أن يتأمّلوا هذه التّوجيهات الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف، يرسمُها القرآن الكريم ويبيّنها أوضحَ بيان:
التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلمين أفراداً وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات، لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12]. وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم، فهذا أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجُه رضي الله عنهما، وقد خاض النّاس في حديث الإفك، لقد أثار هذان الزّوجان الكريمان هذا السؤال فيقول أبو أيوب مخاطباً زوجَه: أرأيتِ لو كنتُ مكانَ صفوان بنِ معطّل، أكنتُ فاعلاً؟! أو كنتِ أنتِ مكانَ عائشةَ أكُنتِ فاعلةً من ذلك شيئاً؟! فيجيب كلّ منهما صاحبَه: لا والله، ثمَّ يقول أبو أيّوب: وصفوان خيرٌ منّي، وتقول زوجُه: وعائشة خير منّي[1].
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.
التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة، لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء [النور:13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين، فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ [النور:13].
التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ [النور:16].
وبعد: أيّها المسلمون، فإن الذي يتعيَّن اعتمادُ أخبار الثقات العدول، والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين ومن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ومن عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنات بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائماً، وليس الصمت بِرًّا دائماً، وفي الحديث الصحيح: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمُت))[2]. فليس ـ يا عبد الله ـ إلا طريقان، إما خيرٌ تقوله، وإمّا صمت تلتزِمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:82، 83].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، واستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (18/96) من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال بني النجار عن أبي أيوب بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6018، 6019)، ومسلم في الإيمان (47، 48) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنهما.
|