أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من عقيدة أهلِ السنة والجماعة الإيمانَ بقضاء الله وقدره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ كلَّ ما يجري في الكون فبقضاءٍ وقدر مِن الله. والإيمانُ بقضاء الله وقدَره ركنٌ من أركان الإيمان، يدلّ عليه سؤال جبريل النبيّ لمّا قال: يا محمد، أخبرني عن الإيمان، فقال: ((أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمِن بالقدَر خيرِه وشرّه مِن الله))، قال: صدقت[1].
أيّها المسلم، فالإيمانُ بقدَر الله [أن] يؤمنَ العبد حقًّا بهذا الركنِ العظيم، يؤمن بأنَّ الله علِم الأشياءَ قبل كونِها، علِمَها قبلَ حصولها، وأحاط علماً بها كلّها، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
علِم الأشياءَ وكتبها، أي: كتب هذا العِلمَ قبل أن يخلقَ الخليقةَ بخمسين ألفَ سنة، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِى كِتَـٰبٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتُب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتُب، فجَرى في تلك الساعَة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ [الرعد:39].
وإنّ الله جلّ وعلا شاء هذه الأشياءَ، خلقها وشاء وجودَها، فلا يكون في ملكِه ما لا يريد، وإنّما يكون ما يريد جلّ وعلا، وسلفُ الأمّة يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشَأ لم يكن، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [التكوير:28، 29]. فسبحانَ من أحاط علمه بكلّ شيء، وسبحانَ من نفذت قدرتُه في كلّ شيء، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ [الأنبياء:23].
أيّها المسلم، وما يجري في الكون بقضاء وقدرٍ من الله، وله الحكمةُ في كلّ الأحوال، قدَرُه محكَم، لا لعِبَ ولا باطلَ فيه، وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ [ص:27]، وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ مَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39]. فعقيدةُ المسلم حقاً أن يعلمَ أنّ ما يجري في الكون بحِكَم عظيمةٍ بالغة، أدرك البعضَ منها وغابَ عنه أشياء، لكنّ المسلم على يقينٍ أنما يجري بحكمة الربّ جلّ جلاله، له الحكمة في كلِّ ما يقضي ويقدِّر، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ [الأنبياء:23].
المؤمنُ حقًّا إن أصابَه ما يسُرُّه من إيمانٍ وتقوى وتوفيق للخير ونُصرةٍ على الأعداءِ شكر اللهَ على نعمتِه، واستعان بها على ما يُرضي ربَّه، وتقرَّب إلى الله بما يرضيه من صالح الأقوال والأعمال، وإن أصابه ضررٌ في ساعته الراهنة من مصيبةٍ حلَّت به أو قارعَة دَهَتْ أمّتَه ونحو ذلك، فله مع القضاء والقدر وقفات.
أوَّل ذلك: أن يعلَم أنَّ ما يجري ما بين ابتلاء وامتحان، أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، ويكون الابتلاء تمحيصاً وحطًّا للخطايا، وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ [آل عمران:154]. وقد يكون عقوبةً على واجبٍ تركته، أو أمرٍ خالفتَ فيه شرعَ الله، وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ثمَّ هو بعد هذا يبحَث عن نفسِه ومكامِن الخطأ في نفسه، ويعلم أنَّ اللهَ أعدلُ العادلين، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فيعلمُ حقاً أنّ ما أصابَه بذنوبٍ اقترفها، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فمن أنفسنا أوتينا، فتوبةً إلى الله وعوداً إلى الحقّ والهدى، وأنَّ المسلمَ إذا تصوَّر ذلك أصلح ما بينه وبين ربِّه، وحمل أهلَه وولدَه على الخير، ودعاهم إلى الهدى والاستقامة.
وقفةٌ أخرى: أنَّ أهلَ الإيمان أمام الأحداثِ يأخُذُون عِظةً وعبرة، فتكون الأحداث سبباً لإيقاظ نفوسِهم، وتنبيهِهم من رقادِهم، وتذكيرهم بربِّهم ليعودوا إليه، فالمؤمنُ يأخذ عبرةً من كلّ واقع، لا يكون شامِتاً، ولا يكون إلا متَّعظاً معتبِراً، تمرّ به الأحداث فيأخذ منها عظةً وعبرة وتذكيراً.
هكذا المسلم في كلِّ الأحوال، دائماً يتذكَّر ويتَّعِظ ويعتبر بكلِّ واقع، فيزداد الإيمانُ ويقوى اليقين، ولا يكون غافِلاً تمرّ به المواعظ فلا ينتهي ولا ينزجر، وقد ذمَّ الله الكفارَ على مرور المواعظ وعدم اتِّعاظهم واعتبارهم: وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ [الرعد:31]. أمَّا المؤمنون فلا، يأخذون من كلِّ حدثٍ عبرةً وعظة، فيزداد الإيمان ويقوى اليقين، ويعيدوا حساباتِ أنفسهم، ويلجؤوا إلى ربِّهم.
ووقفةٌ أخرى: أنَّ أهلَ الإيمان لا تزيدهم الأحداث إلا صلابةً في دينِهم وثباتاً على إسلامهم، لا تزحزِحهم الأحداث ولا تسلُّطُ الأعداء، ولا يضعف الإيمان، بل يقوى اليقين ويقوى الإيمان، ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [آل عمران:173]، يعلَمون أنّ الأعداءَ يرجفون بهم ويثبِّطون هممَهم، قال الله تعالى: إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وأهلُ الإيمان حقاً يعلمون بما دلّ الكتاب والسنة عليه؛ أنَّ النصرَ لأهل الإسلام والعاقبة للمتقين إن صدقنا الله حقاً، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فإذا وُجِد الإيمان الصادق فلأهل الإيمان التمكين والنصرُ والتأييد، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ [الأنبياء:105].
وللمسلمِ أيضاً وقفة أخرى: وهو أن يعلمَ أنّ ما أصابه من بلاء فللعدوِّ نصيبٌ من ذلك، قال تعالى في كتابه العزيز مبيِّناً ذلك: وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَاء ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، لكنَّ المؤمنَ يرجو ما عند الله، وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، فالمؤمن يرجو من الله الخيرَ والمثوبَة.
ووقفة أخرى: أنَّ المؤمنَ أمام الأحداث يتقَّرب إلى الله بما يُرضيه، فيبذل المعروفَ، ويكثِر الإحسان والإنفاق في وجوه الخير، فإنَّ الصدقاتِ يدفع الله بها البلاء، ويرفع الله بها المِحن، فالإحسان إلى عباد الله ورحمةُ عِباد الله يرحم الله بذلك العباد، ارحَموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الراحمون يرحمُهم الرحمن، والصدقةُ تطفئ غضَب الربِّ، وتدفع ميتة السوء، وفي الحكمة: "صنائِع المعروف تمنَع مصارعَ السوء".
وأمرٌ آخر: أنَّ أهلَ الإيمان أمام الأحداثِ والبلايا يكثُر التِجاؤهم إلى ربِّهم وتضرُّعهم بين يدَيه، مع أخذِهم بكلِّ سببٍ نافع، لكنَّهم يلجؤون إلى الله، ويُلحّون في الدعاء آناء الليل وأطرافَ النهار، فما أصاب المسلمين من كَرب ففوّضوا أمرَهم إلى ربِّهم والتجؤوا إلى ربِّهم [إلا] وجَدوا الله توّاباً رحيماً. ها هم أنبياؤه ورسلُه إذا نزلت بهم المضائق لجؤوا إلى الله، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ [الأنبياء:83، 84]، وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
أيّها المسلم، ثمَّ أهلُ الإيمان مع ذلك يحسِنون الظنَّ بربِّهم، ولا يسيؤون الظنَّ بربِّهم، ويعلمون أنَّه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدِّر، لا يظنُّون به ظنَّ المنافقين الظانّين بالله ظنَّ السوء، لكنَّ ثقتَهم بربهم، وأنَّ الأمور بيَد الله، وموازين القوى بيدِ الله، والعباد كلّهم خاضعون لله، لكن الابتلاء والامتحان لا بدَّ منه؛ ليظهرَ صدق المؤمنين وثباتُهم وارتباطهم وقوّتهم ووقوفهم أمام عدوّهم وقفةَ الصدق واليقين والارتباط والثباتِ وشدّ الأزر والتعاونِ القويّ بين أفراد الأمّة.
أمّة الإسلام يُستهدَف دينُ الإسلام، ويُستهدف أمنُ الأمّة، وتُستهدف خيراتُها، وتُستهدف وحدتُها واجتماع كلمتِها، ويُسْتهدف كلُّ خير تتمتَّع به الأمّة، فواجبُ الأمّة أن لا يوجِدوا ثغرةً لأعدائِنا يلِجون من خلالها، بل نكون صفًّا مترابِطاً، صفًّا واحداً كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، وكالسجد الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسَد بالحمَّى والسهر، سَمعاً وطاعةً لله ثمّ لولاةِ الأمر، واجتماعَ كلمة، ووحدة صفٍّ وهدف، والتحامًا على الخير، وإغلاق الأسمَاع عن كلِّ الأراجيف والأباطيل؛ لأنَّ الأمة اليوم بحاجةٍ إلى تكاتُف وتعاون واجتماع وارتباط وثيق يشدّ بعضُهم أزرَ بعض، هكذا يكون المؤمنون، وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
إنَّ اتحادَ جبهة الأمة وقوّة تماسكِها لعنوانُ صلاحها وسلامتها بتوفيق من الله، وإنَّ هذه الغمَّة والبلايا سيزيلها الله بفضلِه وكرمه، لكن علينا أن نتمسَّك بديننا، وأن نثِق بإسلامنا وتعاليمِ دينِنا حقاً، وأن نكونَ على المنهج القويم، نسأل الله الثباتَ على الخير والاستقامة على الهدى، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. |