أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ تعالى وأطيعوه، وأنيبوا إليه واستغفروه، فتقوى الله خيرُ عملٍ وأحسن أمَل.
عبَاد الله، إنَّ غايةَ الإسلام العظمى هي إصلاحُ القلوب وتقويم الأخلاق، فإصلاحُ القلوب بتوحيدِ الله عزّ وجلّ وإفرادِه بالعبادات، ومحبَّة ما يحبُّه الله ويرضاه وبُغض ما يكرهُه الله ويأبَاه من الأقوال والأفعال والأعيان الظاهرة والباطنة، عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبِهات، لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتَّقى الشبهاتِ فقد استبرَأ لدينِه وعرضِه، ومن وقع في الشّبهات وقعَ في الحرام، كالرّاعي يرعَى حول الحمى يوشِك أن يرتَع فيه، ألا وإنَّ لكلّ ملِكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلَح الجسَد كلّه، وإذا فسَدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم[1].
كما أنَّ من أعظمِ غاياتِ الشريعةِ الإسلاميّة الكثيرة اجتماعَ الكلمة وألفَة القلوب بين المسلمين؛ لأنّه باجتماع الكلمة وألفةِ القلوب تتحقّقُ مصالح الدّين والدنيا، ويتحقّق التناصرُ والتعاون والتعاضُد، قال الله تعالى: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال عزّ وجلّ: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وفي الحديث عن النبيّ : ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثَل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمَّى)) رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما[2]، وفي الحديث الآخر: ((المؤمنِ للمؤمن كالبنيان يشُدّ بعضُه بعضاً)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري[3]، وقال النبيّ : ((من لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم))[4].
ومِن أعظم ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله الفرقةُ والاختلاف، قال الله تعالى: وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:46]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، وفي الحديث عن النبي : ((لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم))[5]، أو قال: ((تختلف وجوهُكم))، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الخلاف شرٌّ كلّه)[6]، وقال الحسن بن علي رضي الله عنه: (أيّها النّاس، إنَّ الذي تكرَهون في الجماعة خيرٌ مما تحِبّوه في الفرقة)[7].
وهذه المعاني العظيمة واجبة في كلِّ وقتٍ على المسلم، ولكنّها متأكّدة الوجوبِ في أوقاتِ الشدائد والأزمات والفِتن، حفاظاً على حوزة المسلمين وحراسة للملّة والدين؛ لأنَّ اجتماع الكلمة قوّةُ المسلمين، واختلافُ الكلمة ضعفُ المسلمين، ولذلك أمر النبي بلزوم إمامِ المسلمين وجماعتِهم، فعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وليس له إمامٌ مات ميتةً جاهليّة)) رواه أحمد والطبراني وابن حبان[8]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يومَ القيامة ولا حُجّة له، ومن مات وليس في عنقِه بيعةٌ مات ميتة جاهليّة)) رواه مسلم[9]، وعن الحارث الأشعريّ رضي الله عنه أن النبي قال: ((أنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهنَّ: بالجماعة وبالسمع والطاعة والهجرة والجهادِ في سبيل الله، فإنّه من خرج من الجماعة قيدَ شبرٍ فقد خلع رِبقةَ الإسلام من عنقه إلى أن يرجِع، ومن دعا بدعوَى الجاهليّة فهو من جُثاءِ جهنم))، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟! قال: ((وإن صام وصلى وزعَم أنّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائِهم بما سمّاهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عبادَ الله عز وجل)) حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والحاكم[10]، وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا تَسْأل عنهم: رجل فارَق الجماعة وعصى إمامَه ومات عاصياً، وعبدٌ أبق فمات، وامرأة غابَ عنها زوجُها يكفيها المؤنة فتبرّجت من بعدِه)) حديث صحيح رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم[11]، ومعنى: ((لا تسأل عنهم)) أي: إنهم هالكون لعظم معصيتِهم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يدُ الله على الجماعة)) رواه الطبراني[12].
ومِن كمالِ شريعة الإسلام إيجابُها وافتراضها على المسلمين اجتماعَ كلمتهم ولزومَ جماعتهم وإمامِهم، ليكونوا كالجبال الرواسي أمام رياح الفتن والشدائد، وليحافظوا على دينهم من التغيير والتبديل، وليحافظوا على مصالحِ دنياهم التي هي قِوام حياتِهم، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"[13].
ومن أعظمِ ما نهى عنه الإسلام الخوضُ بالباطل في الأحداث والفتن، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إيّاكم والفتن؛ فإنَّ اللّسان فيها كوقعِ السيف)) رواه ابن ماجه[14]. فالواجبُ على المسلم أن يكفَّ يدَه ولسانَه عمَّا حرَّم الله عز وجل وقتَ كثرة القيل والفتن.
ونُحذِّر المسلمين عامّة وشبابَنا خاصّة من التأثّر بالشائعات الكاذِبة والأراجيف المُغرضة والأفكار الوافِدة الهدّامة التي تُنشَر عبرَ الفضائيّات وعبرَ شبكة المعلومات، والتي تستهدِف الطعنَ في الدّين والأخلاق، وتبثّ الفُرقة والاختلاف والخوفَ والهلع والجزَع، وتقدَح في الولاة والعلماء، فالعلماء والولاةُ إذا صلحوا صلحَ الناس، فيُدعَى لهم بالصلاح والخير، ولا يُدعَى عليهم، ويُعانون على مهمّتِهم الكبيرة، فيُعان ولاةُ الأمور على تنفيذِ الشريعة ورعاية المصالح، ويُعان العلماء على بيَان الشريعة وتفصيل أحكامِها والقيامِ بما وُكِل إليهم من أمور الشريعة ومصالحِ الناس.
واعتصموا ـ عباد الله ـ بالصّبر واليقين، كما نحذِّر بعضَ الشباب المغرَّر بهم من القيام بأعمالٍ تخريبيّة محرَّمَة تضرّ ببلادهم، يُدفَعون إليها بمكرِ ماكر، أو بحماقَة حاقِد، أو اجتهادِ سفَه من أشخاصٍ وإن لبسوا لباسَ الدّين للوصول إلى منافعهم الشخصية، فتزهَق نفوسٌ آمنة، وتُراقُ دماء محرّمة.
وعلى الأمّة كلِّها حكّامِها وعلمائها وشعوبِها أن تكون يداً واحدةً أمام التحديات التي تهدِّد كيانَهم.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرة والباطنة، وحاسبوا أنفسَكم قبلَ العرض على الله، واعمَلوا الخيراتِ في الرّخاء يتولّ الله أمرَكم في الشدائد والمحن، والزَموا التّوبة في كلّ حالٍ من جميع الذنوب يدفع الله عنكم المكروهاتِ والكربات، قال الله تعالى: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ [طه:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586).
[3] أخرجه البخاري في الصلاة (481)، ومسلم في البر (2585).
[4] أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
[5] أخرجه مسلم في الصلاة (432) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
[6] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/516)، وأبو داود في المناسك (1960)، والبزار (1641)، وأبو يعلى (5377)، والشاشي (460)، والطبراني في الأوسط (6637)، والبيهقي في الكبرى (3/143)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1726).
[7] روي هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (7/474)، والطبري في تفسيره (4/32)، والطبراني في الكبير (9/198، 199)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (159)، وأبو نعيم في الحلية (9/249)، وابن عبد البر في التمهيد (21/274)، وصححه الحاكم (8663)، وقال الهيثمي في المجمع (5/222): "فيه ثابت بن قطبة ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
[8] أخرجه أحمد (4/96)، والطبراني في الكبير (19/388) والأوسط (5820)، وكذلك ابن أبي عاصم في السنة (1057)، وأبو يعلى (7375)، وصححه ابن حبان (4573)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة (1057).
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1851).
[10] أخرجه أحمد (4/130)، والترمذي في الأمثال، باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863)، وأبو يعلى (3/141)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (3/195-1895)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/582)، والألباني في صحيح الترغيب (552).
[11] أخرجه أحمد (6/19)، والبخاري في الأدب المفرد (590)، والبزار (3749)، والطبراني في الكبير (18/306)، وصححه ابن حبان (4559)، والحاكم (411)، وأقره الذهبي، وهو في صحيح الجامع (3058).
[12] أخرجه الطبراني في الكبير (12/447)، وهو عند الترمذي في الفتن (2167)، وابن أبي عاصم في السنة (80)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (154) بزيادة في آخره، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1/200-202)، وللحديث طرق وشواهد وقد صححه الألباني في ظلال الجنة (1/40).
[13] أخرجه أبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وأخرجه أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (44)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3851).
[14] أخرجه ابن ماجه في الفتن (3968)، قال البوصيري في الزوائد (4/176): "هذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وأبوه لم يسمع من ابن عمر"، وخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة (2479). |