الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره، وزين الإنسان بحسن تقويمه وتقديره، وشرع له من الدين ما يكفل بتطهيره، نحمده سبحانه وتعالى أن وعظنا في كتابه بترهيبه وتحذيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في تصويره وتقديره، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أحسن من دعا إلى الله بإنذاره وتبشيره، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المصطفى وآله وأصحابه المؤيدين بتوفيقه وتبصيره.
أما بعد: أيها المؤمنون، نعيش وإياكم ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فتعالوا بنا نتعلم من رسول الله ، نتعلم من صاحب الرسالة العصماء الذي علم البشرية كيف يكون الوفاء، علمهم كيف تكون الشجاعة والإقدام، فقد انفضت الجلسة في دار الندوة في مكة المكرمة، وأجمع الجمع من أهل الكفر على قتل رسول الله ، وأعلن رئيسهم وزعيمهم وشيطانهم أبو جهل حالة الطوارئ القصوى بين شباب مكة وفتيانها الأقوياء، واستطاع أن يجند أربعين شاباً جلداً، بهدف فرض الحصار على بيت رسول الله ، على بيت الهدى والنور، على بيت يعتبر منار الأرض جميعاً، لفرض الحصار على بيتٍ جليسُ صاحبه جبريل، وضيفُه ميكائيل وإسرافيل، لفرض الحصار على بيتٍ خاطب الله تبارك وتعالى صاحبه بقوله : وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48].
وأعلمَ الرسول علياً كرم الله وجهه بما سيجري، وقال له: ((تبيتُ مكاني الليلةَ يا علي))، قال علي رضي الله عنه: نفسي لك الفداء يا رسول الله. فقال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل مختصراً ما جرى ودار في جلستهم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ [الأنفال:30]، أهدافهم كانت واضحة: اعتقال وتحديد إقامة أو نفي من مكة.
وفي النهاية استقر الأمر على قتل الرسول الأعظم ، فمن الذي يحمي نبينا عليه الصلاة والسلام؟ من الذي يحمي الرسول ؟
عباد الله، إن الصراع بين الحق والباطل مستمر على وجه الأرض، من يوم قتل قابيل أخاه هابيل، إلى أن ينفخ في الصور يوم القيامة.
الرسول داخل بيته، يسبّح بحمد ربه، صوت الحقّ يعلو بذكر الله تبارك وتعالى دائماً، وصوت الباطل يهدّد ويتوعّد، وجاءت اللحظة الموعودة، ونام عليّ مكان رسول الله ، وخرج الرسول الكريم من باب بيته، ولا يملك إلا سلاح الإيمان وآيات القرآن التي أنزلها الله تبارك وتعالى، فقرأ الآيات الأولى من سورة يس إلى قول الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9].
هذه الآيات بقدرة الله تبارك وتعالى جعلت شباب الحصار يتمرغون على التراب، فمن الذي أنامهم؟ هو الله تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
انتبهوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى قول الله تبارك وتعالى: فَأغْشَيْنَـٰهُمْ ولم يقل: "فأنمناهم"؛ لأنهم لو ناموا لجاز أن يستيقظوا عند أي حركة، ولكن أغشيناهم، يعني غطيناهم بحيث شمل الغشاء جميع أجسادهم، لماذا؟ لأنهم غادرون خاسرون فاجرون.
خرج نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتَ الخطى، يمشي كأنه الجبال الضاربة بجذورها في أعماق الأرض، ودخل القوم في الصباح بعد أن أيقظهم أحد رعاة الغنم، دخلوا على عليّ فوجدوه نائماً، حسبوه المصطفى ، إنهم لا يريدون علياً، إنهم يريدون ابن عمه، وقد فاتهم الطلب، فخرجوا يجرّون أذيال الندامة، يبحثون ويهتفون: أين محمد؟
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
الشمس طلعت، والأرض أشرقت بنور ربها، والقوم نائمون على الأرض، ورسول الله يأخذ طريقه، وقافلة التوحيد تمضي، وقافلة الإسلام تسير، والذئاب تعوي، ولكن لن يضرّ السحاب نبح الكلاب.
إن الإسلام يتجدّد، ولكنه لا يتبدّد، لماذا؟ لأنه دين الله تبارك وتعالى، والله حيّ لا يموت، ويدخل نبينا وصاحبه الغار، وربنا تبارك وتعالى يقول: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فلا تحزنوا أيها المؤمنون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، لأن الله تبارك وتعالى معنا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]، وعناية الله تبارك وتعالى تحفظ الرسول وصاحبه.
ورحم الله الشاعر وهو يقول:
وما حوى الغار من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنـه عم
فالصدق في الغار والصديق لم يريا وهم يقولون: ما بالغار مـن أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنصب ولم تحـم
وقايـة الله أغنت عن مضـاعفـة من الدروع وعن عال من الأُطُم
إنها عناية الله تبارك وتعالى التي تحمي من يسير في ركابه، إن الحرب ليست حرباً سياسية كما يزعم قصار النظر، إن الحرب بيننا وبين الباطل حرب عقائدية، فالأمة ليست في حاجة إلى تسلية، وإنما في حاجة إلى توعية، الأمة في حاجة إلى توجيه، وليست في حاجة إلى ترفيه.
فكفى لهواً أيها المؤمنون، وتعالوا نستلهم العبر من هذه الذكرى الشريفة، فيا من تحاربون الإسلام، إنكم في الحقيقة تحاربون أنفسكم، فمتى مات الإسلام؟! الإسلام لم يمت، الإسلام قادم. إنكم تحاولون أن تثيروا التراب على السماء، ولكنكم تثيرون التراب على أنفسكم، وستبقى السماء هي السماء، ضاحكة السن بسّامة المحيَّا.
أيها المؤمنون، ماذا ستفعل قوى الأرض جميعاً؟ ماذا ستفعل أساطيل أمريكا؟ ماذا ستفعل الصواريخ العابرة للقارات؟ ماذا ستفعل طائرات إنجلترا؟ ماذا ستصنع الدبابات؟ ماذا تنفع أسلحة ألمانيا؟
ماذا سيفعلون أمام قوة الله تبارك وتعالى؟ إنهم لن يستطيعوا أن يقفوا أمام من يقول للشيء: "كن" فيكون، إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50، 51].
وأنتم أيها الحكام:
إلام الخـلف بيـنكـم إلا مـا وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيـم يكيـد بعضكم لبعـض وتبدون العداوة والخصـامـا
وأيـن الفوز لا مصر استقرت على حال ولا السودان دامـا
شببتم بينـكم في القطر نـارا علـى مختلفٍ كان السلامـا
ولينـا الحكمَ حزبـا بعد حزب فلم نك مصلحيـن ولا كراما
وسسنا الأمـر حين خلا إليـنا فلِم نغدو الجزاء والانتقـامـا
شهيـد الحق كنـت له يتيـما بأرض ضيـعت فيه اليتامى
أقـام علـى الشفـاه غريـباً ومر علـى القلـوب فما أقاما
اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن قوة أعدائكم إنما جاءت من ضعف حكامكم، فقد اجتمعوا ليختلفوا، اجتمعوا ليتفرقوا، فإذا أردتم أن تتخذوا لكم قدوة فها هم أصحاب رسول الله ، اتخذوهم قدوة لكم، فهم الذين نصروا الإسلام ونشروه، هم الذين حرروا البلاد والعباد، ورحم الله من قال فيهم:
هـم الجبال فسل عنهم مصادمهم مـاذا رأى منهم في كل مصطدَم
وسل حُنيناً وسل بدرا وسـل أحدا فصول حتف لهم أدهى من الوصم
طارت قلوب العدا من بأسهم فرقاً فمـا تفرِّق بيـن البـهم والبهـم
ومـن تكن برسول الله نصرتـه إن تلقه الأسـد في آجـامها تجم
|