.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

من وحي الهجرة

3073

سيرة وتاريخ

السيرة النبوية

أسامة بن عبد الله خياط

مكة المكرمة

27/12/1423

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ضرورة تأمّل الأحداث التاريخية الكبرى والاعتبار بها. 2- الهجرة النبوية من أعظم أحداث التاريخ. 3- من فوائد الهجرة النبوية. 4- ضرورة أخذ الدروس والعبر من الهجرة النبوية المباركة. 5- الهجرة المعنوية.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وليكُن لكم من مرور الأيام حسنُ الاعتبار، واذكُروا على الدّوام أن تصرّم الأعوام مؤذنٌ بانقضاء الآجال وقربِ الرحيل، فاعملوا على استنقاذ أنفسِكم من هولِ يومٍ تشخَص فيه الأبصار.

أيّها المسلمون، إنَّ الأحداثَ الكبرى في حياة الأمم والشّعوب والجماعات والأفراد جديرة بالوقوفِ عندَها وقفاتٍ متأملة؛ لاستخلاصِ ما حفلَت به عِبر، وما تضمَّنته من معانِي، وما حوَته من فوائد، وما دلّت عليه من مناهِج، وما أرشدت إليه من مسالكَ وسبلٍ يسير بها السالك ليبلغَ المنزل ويصِلَ إلى الغاية في مأمنٍ من الزَّلل ومنجاةٍ من العِثار وإصابةٍ للهدف وتوفيقٍ للمراد. وإنَّ في حياةِ رسول الله أحداثاً حوّلت مجرَى التاريخ وأحدَثت أعظمَ نقلة وأعقبت أقوَى الآثار، تبوَّأت منها الهجرةُ النبويّة المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً، حيث كانت بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين، وهزيمةً وصَغاراً للكافرين.

وفي وقائِع هذه الهجرة ـ أيها الإخوة ـ مِن الدّروس والعبَر وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحِيط به الحصر ولا يستوعِبه البيان، غيرَ أنَّ مِن أظهرِ ذلك وأوضحِه دلالةً هاتين الفائدتين العزيزتين والعبرتين الماثلتين أمامَ كلِّ ذِي فِكر راشدٍ أو رَأي سديد.

أمَّا أولاهما فهي أنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمى من الديار، وأنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأنَّ الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كلِّ متاعِ الحياة الدنيا، يتجلّى هذا المعنَى بيّنًا في خروجِ هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من هذا الحِمى المبارَك والحرمِ الآمِن والأرضِ الطيّبة التي صوّر واقعَها الحديثُ الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسول الله واقفًا على الحَزْوَرَة[1] فقال: ((والله، إنَّك لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت))[2]، والحديث الذي أخرجه الترمذيّ في جامعه بإسناد صحيحٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله لمكّة: ((ما أطيَبَك من بلدٍ وأحبّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ))[3]، ثم هيَ مسقطُ رأسِه الشريف، وفيها مراتِع الصِّبا ومرابِع الشباب، والخروج على الإلفِ ومفارقة الوطنِ هو من أشدِّ العُسر الذي يتكلّفه المَرء، لكنَّه خرجَ من هذه البلدةِ الطيّبة مؤثرًا رِضَا ربِّه وطاعةَ خالقِه ومصلحةَ دينِه ونشرَ عقيدتِه باتِّساع دائرةِ الهداية وامتدَاد آفاقِها بزوالِ العوائقِ مِن طريقِ الدَّعوةِ وارتفَاع العقباتِ مِن بين يديها؛ ليكونَ للناسِ حقُّ الاختيَار وحريّة القرار عملاً بقولِه سبحانه: وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وبقوله عزَّ اسمه: لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ الآية [البقرة:256].

وأمَّا الثانية فهيَ كمَال اليقينِ بمعيّة الله تعالى لعبادِه المؤمنين الصَّادقين، ذلك اليقين الرَّاسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، ولا يُزلزِله إرعادُ أهلِه ولا إبراقهم، ولا يهزّه تهديدُهم ولا وعيدهم، يستبينُ ذلك جليًّا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كانَا فيه، وحينَ قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا، فقال رسول الله قولتَه التي أخذَت بمجامعِ القلوبِ وصوّرَت الإيمانَ في أرفعِ مقاماتِه وأسمَى درجاتِه: ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما))[4]، وأنزَلَ سبحانه مصداقَ ذلك في كتابه، أنزل قولَه في معرضِ التذكيرِ بالآلاء قال: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].

وأيُّ معيّةٍ ـ يا عبادَ الله ـ تعدِل هذه المعيةَ؟! وأيّ قوّةٍ تكافِئ هذه القوّة؟! إنّها الحِصن الحَصين من كلِّ الغوائِل، والعدّة في كلِّ شدةٍ، والدّرع الواقي من سهام البوائِق والشّرور، لكنَّ هذه المعيّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمَّ بامتثال أوامرِه والانتهاء عمَّا نهاهم عنه.

عبادَ الله، إنَّ هذه الأمةَ المسلمة خليقةٌ أن تأخذَ من دروس هذه الهجرةِ المباركة وعبرِها المددَ الذي لا ينفَد والمعينَ الذي لا ينضَب والزَّاد الذي لا يفنَى؛ إذ هيَ جديرة بأن تبعثَ فيها اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزَّة، وما هيَّأته من أسبابِ الرِّفعة وبواعثِ السموِّ وعواملِ التَّمكين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].

نفعنِي الله وإيَّاكم بهديِ كتابه وبسنَّة نبيه ٌ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.




[1] قال في معجم البلدان (2/255): "الحزورة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة، وجمعها حزاور. وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشدّدون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه".

[2] أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي في المناقب (3925)، والنسائي في الكبرى (4252، 4253، )، وابن ماجه في المناسك (3108)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حزم في المحلى (7/289)، وابن عبد البر في التمهيد (2/288)، والحافظ في الفتح (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).

[3] أخرجه الترمذي في المناقب (3926)، والطبراني في الكبير (10/267، 270)، والبيهقي في الشعب (4013)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3709)، والحاكم (1787)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3083).

[4] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله الذي له الدنيا والآخرة وإليه المصير، أحمدُه سبحانه العليّ الكبير، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيَا عبادَ الله، إنَّه إن كانت الهجرة انتقالاً من دارِ الكفرِ إلى دارِ الإسلامِ فإنَّها تكون أيضاً بهَجر الآثامِ والتَّجافي عن الذنوب والنأيِ عن كلِّ ما نهى الله عنه، ففي الحديث الذي أخرجَه البخاريّ رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله قال: ((المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجِرُ من هجرَ ما نهى الله عنه))[1].

وإنَّها لهجرةٌ ـ يا عبادَ الله ـ يا لهَا مِن هجرة، فاعمَلوا ـ رحمَكم الله ـ على كلِّ مَا يبلِّغكم هذه المنزلةَ تطِبْ حياتُكم وتستقِم أحوالكم وترضَوا برضوان ربّكم.

ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وصلّوا وسلّموا على خيرِ خلقِ الله محمد بن عبد الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه قولاً كريماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

 



[1] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وهو عند مسلم في الإيمان (40) دون ذكر الهجرة.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً