أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وراقبوه، فإنَّ السعيدَ من اتقى الله وأقبل على مولاه، فأكرمه ونعّمه واجتباه.
أيها المسلمون، إن زخرفَ الحياة الدنيا وزينتَها وبهجتها ونضارتَها ولهوها ولغوَها لم يكن أبداً حائلاً بين المؤمن المخبت اليقظِ وبين السيرِ إلى الله بخطًى حثيثةٍ وأقدام راسخة وهمّة مجتمعة وعزم لا يلين، وإذا كان ديدنُ أهل الدنيا العنايةَ بكلِّ سبب يحفظ لهم منازلهم فيها ومكتسباتِهم منها فإنَّ شأن أولي الألباب وطريقَ أولي النهى ونهجَ أولي الأبصار من عباد الرحمن كمالُ الحرص على ما يحفظ عليهم مقاماتِ الإيمان وصفاءَ السنة ونقاء الاتباع وصالح الأقوال والأعمال، ولذا فإنهم في سعيهم إلى الحفاظ على هذه النعم المحبوبات والمنح الكريمات يستيقنون أنَّ من أجلِّ نعم الله التي أسبغها عليهم بعد نعمة التوحيد والإيمان هو ما هيَّأ الله لهم من هؤلاء الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين الذين يُسدون إليهم أوثقَ الجميل وأبلغ المعروف وأعظمَ الأيادي حين يذكِّرونهم بالله فيحسِنون التذكير، وحين يبصِّرونهم بخفيِّ عيوبهم فيُحكِمون التبصير، وحين يقِفونهم على مواضع العلل ومجالب الآفات وأسباب الهلكات فيصيبون بذلك أوفرَ حظٍّ من التوفيقِ، هنالك يُعلم مبلغُ ما في قول بعض السلف رضوان الله عليهم في وصية جامعة له: "واعلم أن من نصحك فقد أحبَّك، ومن داهنك فقد غشّك"، هنالك يُعلم مبلغُ ما في هذا القول من الصدق والإخلاص والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
عباد الله، إن قبولَ النصح والاحتفاء بالتذكير سجيةٌ جميلة ومنقبة جليلة وخلّة محمودة وخلق كريم، يستبين به كمالُ عقل المنصوح ونُبل نفسه وسلامةُ سريرته وصفاء طويّته، فإنه يوقن بثاقب نظره وسديد رأيه أن النقص محقّق، وأن الكمال عزيز، وأن القصور محيط بالبشر لازمٌ لهم لا ينفكّ عنهم، وأنَّه لا يتمّ جبر الكسر ورَتق الفتق وإقامة العِوج إلا بفضل الله وبرحمته ثم بمعونة هؤلاء الناصحين من الصادقين المخلصين. وكيف لا يتيقّن صواب هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة من يعلم أن مفهومَ لفظ النصيحة هو كما قال أهل العلم: حِيازة الحظِّ للمنصوح، أي: من كلِّ خيرٍ عاجل أو آجل، وأن أصلَ النصح الصفاءُ والخلوص من قول القائل: نصحتُ العسلَ، أي: صفَّيتُه، أو من قوله: نصحتُ الثوب، أي: خِطتُه ورتقتُ فتقه وسترتُ عيبَه. ثم كيف لا يتيقّن صوابَ هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة من يعلم أنه حين يُصِمّ أذنيه عن سماع النصح إنما يتردّى في وهدة الكبر المهلك والعُجب المفسد المتمثّل في ردّ الحق والتشبُّث بالباطل وغمط الناس، فيكون ممن يُخش عليه مثلُ عاقبة من وصف الله حالَه بقوله عز اسمه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [البقرة:206] عياذاً بالله من ذلك. وكيف لا يتيقّن صوابَ هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة أيضاً من يتلو كتاب ربه غدوًّا وعشيًّا وكلَّ حين، فيجد أنه سبحانه حين قصّ علينا من أنباء من قد سبق من الأمم التي حاق بها العذاب، فإنه يبيّن سبحانه في وضوح لا خفاء فيه أن مردّ ما نزل بهم من بأس الله إنما هو الاستكبار والعتوّ والعلوّ على الله وردُّ نصح رسل الله كما في نبأ ثمود قومِ صالح عليه السلام حين أعرضوا عن نصحه، وأصمّوا آذانَهم عن تذكيره وتحذيره، فقال الله في شأنهم: فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَـٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَـٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ [الأعراف:77-79].
عباد الله، إنه لعِظم مقام النصح وشرفِ منزلته وسموِّ مرتبته كان رسول الله يشرطه على من يبايعه على الإسلام من الصحابة الكرام، فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن زياد بن علاقة أنه قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يومَ مات المغيرة بن شعبة بعد أن قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، وعليكم بالوقار والسكينة حتى يأتيَكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم ـ أي: اطلبوا له العفو من الله ـ، فإنه كان يحبُّ العفو، ثم قال: أما بعد: فإني أتيت النبي فقلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: ((والنصح لكل مسلم)) ـ أي: وعلى النصح لكل مسلم ـ، فبايعته على هذا، وربِّ هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل رضي الله عنه وأرضاه. فليس عجباً إذاً ـ أيها الإخوة ـ أن يكون الدينُ النصيحةَ كما أخبر بذلك النبي في الحديث الذي أخرجه مسلم رحمه الله في الصحيح عن تميم الداري أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك ثلاثاً، قالوا: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فأما النصيحة لله فبتوحيدِه سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، وبتقديم حقِّه سبحانه على حقوق غيره، والرغبة في محابّه بفعل مراضيه، والرهبة من سخطه، بترك معاصيه، وبالاجتهاد في ردِّ العاصين إليه.
وأما النصيحة لكتابه فبتعلُّمه وتعليمه، والعمل به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة، وتفهّم معانيه، وحفظ حدوده، وذبّ تحريف المبطلين عنه.
وأما النصيحة لرسوله فبمحبَّته وطاعته ونصرته، وإحياء سنته تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، وبالاقتداء به في أقواله وأفعاله، ونبذ الابتداع في دينه، والحذر من الغلو فيه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فبإعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به، وبتنبيههم عند الغفلة، وسدّ خلّتهم عن الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، وردّ القلوب النافرة إليهم. ومن جملة أئمة المسلمين ـ يا عباد الله ـ الأئمة المجتهدون، ونصحُهم ببثّ علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظنِّ بهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين فبالشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعُه عليهم، وبتعليمهم ما ينفعهم، وكفّ وجوه الأذى عنهم، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه.
ذكر هذا كلَّه الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره عند بسطهم مدلولَ هذا الحديث العظيم وبيان معانيه.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بحظِّكم من النصح، واعملوا على الاستجابة للتذكير، تكونوا من المفلحين الفائزين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلألْبَـٰبِ [الزمر:17، 18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|