أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها الناس واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم ولن تتركوا سدى، فأنتم في دار بلاء واختبار ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فالسعيد من عرف الجادة وسلك الطريق المستقيم، والشقي من أتبع نفسه هواها فلم يلجمها بلجام الخوف من الله ولم يجعل نصب عينيه ما أمامه من الحساب والجزاء.
عباد الله، الزواج نعمة ربانية ومنحة إلهية، به يجتمع الزوجان على ما أباح الله ويشرعان في تأسيس بيت مسلم تظلله نسمات الإيمان وتحوطه عناية الرحمن، ولكن هناك عقبات وعراقيل وضعها الناس في طريق هذا المشروع الخير والحلم الجميل، فشوهوا صورة الزواج وكدروا على الراغبين في الظفر به، فانقلب الزواج إلى همٍّ لا ينقطع، وأمنية لا تكاد أن تتحقق إلا بشق الأنفس، ومن هنا كان واجباً على الجميع بحث هذه العراقيل ووضعها على ميزان الشرع، فما كان منها دخيلاً على المسلمين فلا عبرة به، وما كان له أصل في الدين ولكن الناس أساؤوا فيه وتعدوا، فالواجب مراعاة ما شرع الله دون إفراط أو تفريط.
فمن تلك العراقيل تأخير تزويج البنات والأخوات، إما عناداً ومكابرة أو طمعاً في مرتب أو انتظاراً لصاحب المال الوفير أو المنصب الأثير، وغفل أولئك عن قول الله تعالى وهو العليم الخبير بما يصلح الناس وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32]، وأين هم من قول المصطفى : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكم من فتاة بقيت حبيسة بيتها تنتظر نصيبها لتسعد كمثيلاتها من النساء، تطرب أذنها لسماع كلمة أمي، وتتمنى أن لو كان لها أولاد يملؤون حياتها ويبرون بها في حال كبرها، ولكن حال دون ذلك أب أو أخ قاسي القلب قد عضلها عن النكاح حمقاً وجهالة، وأي ظلم أشنع من ذلك يا عباد الله؟
إن الله تعالى قد أنزل آية تتلى إلى يوم الدين بسبب عضل ولي، فقد أخرج البخاري عن معقل بن يسار أنه قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: فزوجها إياه.
وتزداد المصيبة حين تجبر الفتاة على الزواج من ابن عمها أو قريبها رغماً عنها، أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي ، فجاء رسول الله فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء.
وعند ابن ماجه جاءت فتاة إلى النبي فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
فيا معشر الآباء إن بناتكم أمانة في أعناقكم، ولسن سلعاً تباع بأعلى سعر أو ينتظر بها المواسم، واحذر أيها الأب أن تكون فلذة كبدك خصماً لك يوم القيامة. ولا يعني ذلك تزويج أول خاطب يطرق الباب، ولكن متى تقدم صاحب الدين والخلق فمرحباً به وإن قلّ ماله، وليس للخلق والدين مقابل من الثمن، وما أكرم والد بنته بأكثر من زوج صالح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر))، وكم من المصائب التي تعانيها بعض النساء من أزواجهن، فهذه تشتكي زوجاً لا يصلي، وأخرى تعاني الأمرَّين من زوج سكير عربيد لا تأمنه على بناته ومحارمه، عياذاً بالله تعالى.
وأمر آخر يقع فيه البعض من المقدمين على الزواج حين يجعل للزواج حسابات مادية، فيبحث عن ذات الوظيفة والمرتب بغض النظر عن الخلق والدين، ونسوا المعيار الحقيقي الذي توزن به النساء، أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللهم عليه وسلم قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
((فاظفر)) كلمة جميلة تشي بمعاني الفوز والكسب، وما يصنع المال والجاه والنسب بالمرأة إن هي عريت عن الخلق والدين الذي يجملها ويحافظ على مكتسباتها، ولو خُيّر أحدنا بين مال الدنيا ونقص العقل أو الدين لما رضي بذلك، ثم إن المال غاد ورائح، وكرسي الوظيفة لا يدوم، وعنه غنى، ولكن لا غنى للبيت عن أم صالحة ذات خلق رصين تربي أولادها وتصون عرضها وتحفظ بيتها، وكم كان المال والجمال سبباً في نشوب المشاكل الزوجية، وهذا لا يعني العزوف عن الجميلة أو ذات النسب بشرط توفر الدين والخلق.
وثمة أمر آخر أرشد الشرع إليه، والناس فيه بين مفرط مقصر وآخر متشدد، فالشرع أباح للخاطب رؤية مخطوبته، وبين أن ذلك مظنة دوام العشرة، فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة على عهد رسول الله ، فقال النبي : ((أنظرت إليها؟ قلت: لا، قال: فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما)) أخرجه النسائي.
فمن الناس من مانع من ذلك بحجة الحياء أو عدم الاعتياد، ومنهم في بعض البلاد من فتح الباب على مصراعيه وسمح لموليته بالجلوس والحديث مع خاطبها، وربما خلا أو خرج بها قبل عقد النكاح، وهذا محرم، وكثيراً ما أدى إلى نتائج لا تحمد عقباها.
وفي التزام حدود الله تعالى الخير والفلاح والستر والعافية في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـٰلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
أقول قولي..
|