أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم يغفر لكم وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، عباد الله لئن كان بعضنا لن يحظى بالحج وأداء المناسك فإن الله سبحانه وهو الكريم الرحمن الحكيم المنان واسع العطاء ومجزل الإحسان، قد شرع لنا من العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام ما تقر به أعين المؤمنين وتسلو به أفئدة المتقين.
فأمامنا يوم عرفة ذلك اليوم العظيم والمشهد الكريم الذي سئل النبي عن صيامه فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) مسلم، ومن بعد يوم عرفة يأتي يوم عيد الأضحى وهو يوم شريف ومن أفضل أيام العام بل قال بعض العلماء: إنه أفضل الأيام على الإطلاق لقوله : ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر)) أبو داود بسند جيد.
وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد ويذبحون أضاحيهم ويكبرون ويحمدون. فحق لهذا اليوم أن تكون له مزيته وشرفه. فلنحمد الله على هذه النعمة ولنجدد الشكر له جل وعلا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في أيام العشر وفي يوم العيد وأيام التشريق فهي أيام ذكر وشكر كما قال سبحانه: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ [الحج:27، 28]، ولقوله سبحانه: وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ [البقرة:203]، ولم يرد للتكبير صفة محددة عن النبي لكن روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً.
ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره.
أما العيد والفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس قال: قدم النبي ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: ((قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم النحر ويوم الفطر)). أحمد وأبوداود والنسائي.
ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال. وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: صلاة العيد واجبة على الأعيان، فإنها من أعظم شعائر الإسلام والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة وقد شرع فيها التكبير. ا.هـ.
أما سماع الخطبة في العيد فهو مستحب غير واجب، لما ورد عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) أبو داود والنسائي وهو صحيح. ويستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد صلاة العيد ليأكل من أضحيته، وهذا هديه ، قال ابن القيم: "وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته".
ويستحب للمصلي يوم العيد أن يأتي من طريق ويعود من طريق آخر اقتداءً بالنبي ، فعن جابر قال: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق. البخاري.
ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.
عباد الله، أيام العيد ليست أيام لهو ولعب وغفلة بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة ولا يعرف لها حداً، ومن تلك العبادات التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام وزيارة الأقارب، وترك التباغض والتحاسد، والعطف على المساكين والأيتام، وإدخال السرور على الأهل والعيال، ومواساة الفقراء وتفقد المحتاجين من الأقارب والجيران.
ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل لقوله سبحانه فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل، فعلها إبراهيم أبو الأنبياء فداءً لأبينا إسماعيل وسنّها نبينا محمد ، قال أنس: ضحى رسول الله بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجليه على صفاحهما. مسلم.
وبين ربنا سبحانه الحكمة من ذبح الأضاحي والهدايا بقوله: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال: وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ. ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر وأن يكون القصد وجه الله وحده لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لب فيه والجسد الذي لا روح فيه.اهـ.
ولذا كان على المسلم أن يستشعر في ذبح الأضاحي التقرب والإخلاص لله تعالى بعيداً عن الرياء والسمعة والمباهاة، وامتثالاً لقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، ثم ليعلم أنه بذبحه الأضاحي يؤدي شعيرة من شعائر الله التي يجب تعظيمها واحترامها لقوله سبحانه: وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج:32]، وقوله سبحانه: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، ففي تعظيم أحكام الله وحرماته الثواب الجزيل والخير في الدنيا والآخرة، ومن تعظيمها محبة أدائها واستشعار العبودية فيها وعدم التثاقل أو التهاون بها. ومن ذلك العناية بتنفيذ الوصايا التي أوصى بها من سلف من الآباء والأجداد والأقارب، فيجب على الوصي فيها العناية بها وأداؤها كما أوصى بها أربابها والحذر من التبديل والتغيير فيها لقوله سبحانه: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
وقد ذكر أهل العلم أن الأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافاً لما يظنه بعض العامة من أن الأضحية خاصة بالأموات، أما لو ضحى عن الأموات تبرعاً منه أو أشركهم معه في أضحيته فهو جائز، أما الأضاحي الموصى بها فيجب تنفيذها دون تبديل أو تغيير.
اللهم زدنا علماً وعلمنا ما ينفعنا إنك واسع كريم، وأستغفر الله لي ولكم.
|