أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون هم الناجون من عذاب الله: ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، ولجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].
عباد الله، كلنا نعلم أن الله تعالى عليم حكيم، و أن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرضين، ألم يقل سبحانه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، ألم يقل محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربه: ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) أخرجه البخاري، وقال الله تعالى: وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [الحجر:21].
ونحن جميعاً نعلم أن الله سبحانه يبتلي بالنقص والضراء، كما يبتلي بالعطاء والنعماء، وهو أحكم الحاكمين، وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وأرزاق الله تعالى تغدو وتروح يهبها من يشاء ويصرفها عمن يشاء ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه تعالى وتقدس نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء [يوسف:56]، ومن تلك النعم والأرزاق التي يصرفها ربنا كما يشاء إنزال الغيث كما قال سبحانه وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50]، وهو القائل سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلأرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ [المؤمنون:18]، وهو القائل تعالى وتقدس: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30].
أيها الناس، كلنا وقفنا على ما حصل من الضرر بتأخر نزول الغيث لمدة عامين متواصلين، فالآبار قد نَضَبت، والأشجار يبِست، والأرض قحَطت، والنخيل قد عطِشت، والثمار قد ذبَلَت، والمواشي قد هُزِلت، ومعها القلوب قد وجَفَت، والنفوس قد هلِعت إلا من رحم الله تعالى.
ونحن أيها المسلمون مضطرون إلى الغيث غاية الضرورة، ولا يستطيع أحد أن ينزل الغيث إلا الله تعالى وحده، الذي يجيب المضْطر إذا دعاه، ويكشف السوء عمن لاذ بحماه، فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو اللطيف الخبير.
أيها المسلمون، إذا علمنا أننا مضطرون إلى رحمة ربنا وغيثه غاية الضرورة، وأنه لا يكشف ضرنا ولا يغيث شدتنا إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم. وإذا علمنا أن الدعاء هو العبادة، وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً، وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب، فإما أن يعطى مطلوبَه أو يْدخر له ما هو أكثر منه وأعظم، أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر، وإذا علمنا أن ربنا تعالى قريب ممن دعاه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ونعلم أن للداعي المضطر منزلة خاصة أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62].
وهذا النبي يونس لما التقمه الحوت وأضحى رهين بطنه في الظلمات المركبة ماذا صنع؟ لقد لجأ إلى ربه وتضرع إليه بالتوحيد والشهادة، التوحيد الذي هو مفزع الخلائق إلى ربها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها، قال تعالى عن يونس: فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:87]. فجاءه الغوث الإلهي العاجل فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87]، أي وكذلك نصنع بالمؤمنين إن فعلوا مثل ما فعل. إذا علمنا ذلك كله يا عباد الله، أفلا نلجأ إلى ربنا وخالقنا ورازقنا ومولانا جل في علاه؟ أفلا نحاسب أنفسنا ونتفقد حالنا في جنب الله تعالى، ألم نسمع قوله تعالى ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ [الروم:41]، ألم نسمع قوله جل وعز وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
إذا علمنا أيها المسلمون ذلك كله فلنتوجه بقلوبنا إلى ربنا ولنرفع أيدينا إليه، مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحاً واستغفاراً من الذنوب. ألا فاتقوا الله ربكم وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن في نفوسكم. تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا بطهور الاستغفار، وتستمطر السماء وتستدر الخيرات وتستنزل البركات.
عباد الله، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)). سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، فتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ [آل عمران:135].
عباد الله، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وبالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 46]، وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّيَ بالاعتراف بالنعم، ثم يقرَ لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسألَ بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس عن النبي أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.
وما أسرع أثر الضراعة والاستكانة والابتهال إلى الله تعالى إن وافق توحيداً وتوكلاً على الله وثقة به وبواسع فضله. قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضيَ منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54]، ثم قال: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه. فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده، قريب ممن دعاه و إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
أقول قولي…
|