عباد الله، لقد دعانا ربنا تعالى إلى التفكر والتدبر في عظيم خلقه وتدبيره فقال: إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ [آل عمران:190]، وذلك لما فيها من الآيات العجيبة مما يبهر الناظرين ويقنع المتفكرين ويجذب أفئدة الصادقين وينبه العقول النيرة إلى عظمة الله تعالى وقدرته.
وخص الله تعالى أولي الألباب بهذه الآيات وهم أولو العقول لأنهم المنتفعون بها الناظرون إليها بعقولهم قبل أبصارهم. ثم وصف أولي الألباب بأنهم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ـ أي في جميع أحوالهم ـ وأنهم وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ [آل عمران:191]، ليستدلوا بها على المقصود منها، فإذا تفكروا بها عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ عن كل ما لا يليق بجلالك.
وقد دعينا في كتاب ربنا إلى التأمل والتفكر في غير ما آية أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإبِلِ [الغاشية:17]، إِنَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ لأَيَـٰتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايَـٰتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ ءايَـٰتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:3-5]، وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـٰتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:20-22].
عباد الله، كلنا يسأل الله الغيث ففيه الحياة بإذن الله وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء:30]، وكلنا يأنس بنزوله ويطرب له إذا توالى، وننتظر أثره عاجلاً. وهذا دأب البشر وَإِنَّهُ لِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، ولكن تعالوا بنا نتأمل في الآيات القرآنية وهي تتحدث عن الغيث وتصف أحوال الناس قبله وبعده وتستعرض أثره. ونقف وقفات عجلى حول بعض العبر التي ينبغي استحضارها.
ففي سورة الروم: ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ… [الروم:48]، يخبر سبحانه عن كمال قدرته وتمام نعمته، أنه يرسل الرياح فتثير السحاب فيتمدد في السماء ويتسع على الحالة التي يريدها سبحانه ثم يجعل السحاب كسفاً أي ثخينا قد طبق بعضه على بعض، فترى الودق وهو النقط الصغار المتفرقة تنزل من خلال السحاب، فلو نزل الماء مرة واحدة لأفسد ما وقع عليه، فإذا نزل الغيث على عباد الله استبشروا وفرحوا.
وفي سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـٰماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ [الزمر:21]، وفي سورة الفرقان: وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50]، فهو وحده سبحانه الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته، وهو المطر ليقع استبشار العباد بالمطر وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة، ثم ينزل المطر بإذن الله تعالى ماء طهوراً مباركاً فتحيى به الأرض الميتة وتختلف نباتاتها وزروعها مما يأكل الناس والأنعام. قال ابن كثير [ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ـ أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب على الأرض، وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى فأمطرتها وكفتها، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، قال ابن مسعود وابن عباس: ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ [الفرقان:50]، وفي سورة الشورى: وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ [الشورى:28]، وفي سورة النور أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلاْبْصَـٰرِ [النور:43]، فهو سبحانه الذي يسوق القطع من السحاب ثم يؤلف بينها فيجعله سحاباً متراكماً مثل الجبال ثم ينزل المطر منه نقطاً متفرقة ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب برداً يتلف ما يصيبه فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، يكاد ضوء برقه يذهب بالأبصار من شدته.
وفي سورة الأعراف: وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ]الأعراف:57].
عباد الله، ما أحرانا بالتفكر فيما حولنا من بديع صنع الله تعالى.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
اللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين الشاكرين المتفكرين في آلائك الشاكرين لنعمائك...
|