.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الإحسان بعد شهر القرآن

2832

الرقاق والأخلاق والآداب

فضائل الأعمال

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

2/10/1423

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- ارتحال شهر رمضان. 3- الحث على إتباع الحسنات بالحسنات. 4- المداومة على العمل الصالح. 5- علامة القبول والخسران. 6- صيام التطوع. 7- الإشادة بالشباب المستقيم على طاعة الله تعالى. 8- التحذير من العودة إلى المعاصي. 9- التذكير بالموت. 10- حقيقة العيد.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى أكرم ما أسررتم وأبهى ما أظهرتم.

أيها المسلمون، إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثاً وتمضي جميعاً، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم[1].

لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيباً وفي عمله مصيبا فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.

أيها المسلمون، كنتم في شهر البر والخير، تصومون نهارَه، وتقومون ليلَه، وتتقرَّبون إلى ربكم بأنواع القربات طمَعاً في الثواب وخشيةً من العقاب، وقد رحلت تلك الأيام، وكأنها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود، هذا هو شهركم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمله، وكم من مؤمِّل أن يعودَ إليه لم يدركه، وهكذا أيام العمر مراحلُ نقطعها يوماً بعد يوم في طريقنا إلى الدار الآخرة.

إن استدامةَ أمر الطاعة وامتدادَ زمانها زادُ الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأرواحهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل، ويجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم يعبدون الزمان لا يعرفون الله إلا في رمضان.

أيها المسلمون، إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمرات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات [بالحسنات] تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها، إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ [هود:114]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن)) رواه الترمذي[2].

ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.

أيها المسلمون، إن انقضى موسمُ رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً في غيره من الشهور، فقد سنَّ المصطفى صيام الاثنين والخميس، وقال: ((إن الأعمال تعرض فيها على الله، وأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم))[3]، وأوصى نبيُّنا محمد أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر[4]، وقال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) متفق عليه[5].

وأتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم[6]. ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له[7]، و((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل))[8]، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.

عباد الله، في حين انغماس بعض الشباب في شهر الصيام في الشهوات والمنكرات، وتقلّبهم في المعاصي والسيئات، ترى فتيةً قد سلكوا طرقَ الخيرات، وسعوا للتزوّد من الباقيات الصالحات، لزموا الاعتكافَ في بيوت الله، وقطعوا العلائق عن الخلائق للاتصال بالخالق، جعلوا رضا الله فوقَ أهوائهم، وطاعتَه فوق رغباتهم، تراهم ما بين راكع وخاشع وساجد ودامع، يتلون كتاب ربهم، ويكثرون من ذكر خالقهم، بهم يُفتخر، وبمثلهم يُعتزّ، إنهم يعيدون الأملَ للأمة، والصلاح في أبناء الملة، فليُحذَ حذوهم في الاستقامة والنقاء، وليهنؤوا فهذا فعل النبلاء، قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




[1] جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أخرجه مسلم في البر (2577).

[2] أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).

[3] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب". وقال البوصيري في الزوائد :"إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949). وله شاهد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عند أحمد (5/200، 204، 208)، وأبي داود في الصوم (2436)، والنسائي في الصيام (2358)، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (4/236).

[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1178)، ومسلم في صلاة المسافرين (721) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.

[6] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.

[7] أخرجه البخاري في  الجمعة، باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] أخرجه البخاري في الرقاق (6464، 6465)، ومسلم في صلاة المسافرين (782، 783) عن عائشة رضي الله عنها.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.

أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه رأس الأمر كله، واعملوا بطاعته تفوزوا بمرضاته، واجتنبوا محارمه تنجوا من غضبه وعقابه، ولا تعودوا إلى الانغماس في معصيته، فإن الانغماس في المعاصي يوجب عذابَه، وقد ودَّعتم موسماً مباركاً عظيماً من مواسم المتاجرة مع ربكم في الأعمال الصالحة، وامتنَّ على أهل هذه القبلة بفيض رحمته ورضوانه، وأعتق رقاباً قد أرَّقتها جرائر سيئاتها، فاستأثرت بالسعادة ونجت من الشقاوة، وهنيئاً لِمن فاز بجائزة ربه، ويا ويح من عاد بالخيبة والندامة، وكأنكم بالأعمال قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، فاستعدّوا بذخائر الأعمال لما تلقَون من عظيم الأهوال، وقد آن وقتُ التحويل إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل، فأنفاسكم معدودة، وملك الموت قاصدٌ إليكم، يقطع آثاركم ويخرّب دياركم، فرحم الله عبداً نظر لنفسه وقدَّم لغده من أمسه، فترحَّلْ من مواطن غيِّك وهلاكك إلى مواطن رشدِك وسدادك، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين بزخارف الدنيا، ولا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين.

واشكروا ربكم على تمام فرضكم، وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة بالحسنة، وإياكم والمجاهرة في الأعياد بقبيح الفعال والآثام، فذلك ماحق للنعم، يقول أحد السلف: "كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو عيد".

واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً