أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:4].
عباد الله:
ماذا نقـول وفي الأقصـى كرامتنـا قـد دَنَّسَتْهـا تماثيـلٌ وصلبـان
ما عذرنا إن طغت في القدس شرذمةٌ ونحـن يا أمتي في الدين إخوان
كـم تستغيث بنـا في القـدس أرملةٌ قـد دك منـزلها حقـدٌ وطغيان
دمـوعها في ندوب الوجـه جاريـةٌ ومـا لهـا منقذٌ يحـدوه إيمـان
أولادها قُصفـوا فـي عقـر دارهـم حتى قَضَوْا فكـأن القوم ما كانوا
يا قومنـا قد كفى ما نـال إخـوتنـا الموت يحصدهـم والذلُّ عنـوان
أسـيافنـا صدئـت من بعـد قوتهـا وكـل إقدامِنـا وعــد وألحـان
سـلام أعدائــنـا زور ومهـزلـة وُوعدهـم خدعـةٌ والعـدل بهتان
لـو لم يرَوْا باطلاً في الغرب يسندهم ما قَطَّعـوا شجـراً بالورد يزدان
إنَّ النفـاق سـلاحٌ يخدعـون بــه من صنع(بوش) ومن تأييد (عَنَّان)
في مجلس الأمن قد مـاتت ضمائرهم كُأنهم عن حـروب الظلم عميـان
لكنمـا هـي أصنـام أتيـح لهــا في مسرح الأرض أنحاءٌ وأركان
شـريعة الغـاب قد بانت فضائحُهـا في كـل ناحيـةٍ للحـق طَعَّـان
إنْ يقتل الطفل في أرضي وفي بلدي وقلـب قاتلــه بالحقـد مـلآن
فـإنَّ قاتَلـه لـم يقتـرف خطــأً وُثــأر والـده ظلــمٌ وعـدوان
يدعـون من يحمل الأحجار مرهبهم ومطلـقٌ حمـمَ النيـران إنسـان
شارون في عصـرنا قد عزَّ دولتـه وُسار في حكمـه للعهـد خـوَّان
يخاف من ظلِّه فـي كـل معتـركٍ كنــه لدمـاء القــوم عطشـانُ
يا أمتـي هل لهذا الليـل مـن فَلَقٍ لُأما لنا مـن دعـاة الحق أعـوانُ
يا أمتـي إنَّ نـور الحـق منبلـجٌ وُزيـف أعدائنــا يمحـوه فرقانُ
أشبالنا قد سَمَوْا عزمـاً وتضحيـة وجند شـارون أنــذالٌ وعبـدانُ
آسـاد حيفـا جبالٌ لا يزلزلـهـا تهديـد طـاغيةٍ يحـدوه شيطـانُ
إن لجَّ أعداؤنا في حقـدهم صلفـاً فالله ناصـرنـا إن هـاج هامـانُ
وعـد مـن الله بالإيمـان نرقبـه مآلنــا جنــة والكفـر نيـرانُ
أيها المسلمون والمسلمات، لن أحدثكم عن كارثة جنين التي عبَّر عنها تيري لارسون مبعوث الأمم المتحدة بقوله: الأمر مفزع في جنين، لن أحدثكم عن البيوت التي هدمت على أصحابها ولا عن القبور الجماعية ولا عن استخدام الأطفال والنساء الفلسطينيات دروعاً بشرية عند اقتحام المخيمات والبيوت، فأنتم رأيتم وسمعتم وقرأتم ما يذيب الفؤاد ولو كان حجراً، ويسيل الدمع ولو كان دماً، ويذهل العقل ولو سما، وماذا عساي أن أفعل وماذا تفعلون عندما نعيد قصص الأحزان ومآسي الزمان والمكان، بل لسنا بحاجة إلى إعادة الصور، ففي كل يوم صور، وفي كل لحظة خبر عن بيت مهدوم وشيخ مقهور وشعب مهزوم وطفل مكسور وشاب مأسور وتصريح مبتور من زعيم عربي مجبور.
إنَّ حديثي معكم قلته وكررته على هذا المنبر قبل عشر سنوات وتلوته عليكم نصاً من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
إن صراعنا مع اليهود صراع عقدي، وأكبر جريمة في هذا العصر أن يبعد القرآن الذي حدد صفات هذا العدو عن ساحة المعركة، ولن تتذوق الأمة طعم العز وتشرب كأس النصر إلا إذا وضعت القرآن منهاج حياتها وحكماً فيصلاً في جميع شؤونها وعلاقتها مع الأعداء والأصدقاء، ولما نُحِّي القرآن جانباً تجرعنا مرارات الذل، حتى الشجب والاستنكار حرمنا منه، وقد علق رئيس دولة إسلامية على مجازر جنين قائلاً: إنها إبادة جماعية. ولما تناقلت وسائل الإعلام هذه الكلمة.. مجرد كلمة أو بالأحرى زلة لسان ووصلت إلى مختبر المواصفات والمقاييس هناك أنبوه وزجروه، فما كان منه إلا أن خرج أمام الناس معتذراً، وآخر يندد بإرهاب الفلسطينيين ويسكت عن إرهاب يهود..
لـمَّا أبعدنا القرآن عن ساحة المعركة مع العدو أهاننا العدو، نقبّل يديه فيركلنا برجليه، نقبل رأسه فيبصق في وجوهنا، نقول له: أنت راعي السلام. فيقول لنا: أنتم إرهابيون، لأننا نمسك بالحجر ونقذف الحجر فقط، أما شارون الدموي فبالأمس القريب يصفه بوش بأنه رجل سلام، وتعلن أمريكا أمام الرأي العالمي أنها ستستخدم حق النقض الفيتو لو فكر مجلس الأمن بالتحقيق في مجازر جنين، بل طالب مجلس الشيوخ بفرض العقوبات على الرئيس المحاصر في رام الله..
أليس من الذل أن يقال لشارون الذي أهلك الحرث والنسل بشهادة تيري لارسون: إنه رجل سلام ويتعرض شاعر عربي في لندن للتهجم والتنديد لأنه ألقى قصيدة عن آيات الأخرس.
أليس من الذل والقهر للأمة أن يصفق للجاني ويوصف بالبطل والمجني عليه وتوقف المساعدات عنه حتى يقمع الإرهاب؟ أليس من الذل للأمة والسخرية بها أن جثثنا في جنين لم تدفن بعد وجرحانا محاصرون تحت الأنقاض ودماءنا تنزف في شوارع ومدن فلسطين الأخرى، ثم نفكر بمبادرة شارون الشرق أوسطية ونناقش دعوته وكأنه لم يفعل شيئاً قط ؟!.
إننا نعيش ذلاً ما مر على الأمة مثله في تاريخ الصراع في فلسطين.. لقد كانوا يجاملوننا في الماضي، وأما اليوم فبكل صراحة يعلنون كراهيتهم لنا وسخريتهم بنا، فهذا رئيس الوزراء الإيطالي الحاقد يقول بكل صراحة عن المؤتمر الدولي لحل الأزمة يقول: علينا أن ننتظر إلى أن تكمل إسرائيل عملها الموجه إلى تفتيت مراكز الإرهاب وإزالة مدخرات المتفجرات ثم نقيم المؤتمر.. بعد ماذا السلام يا ابن اليهودية.
وفي الوقت الذي يشاهد فيه العالم أجمع مجازر شارون في جنين وقلقيلية ونابلس وغيرها دعت مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي القادة الأوربيين إلى إدانة موجة التعصب ضد اليهود التي تتفشى في أوربا، واعتبرت أن من واجب المسؤولين السياسيين التصدي لموجه التعصب ضد اليهود التي تتفشى في أوربا.
أيها المسلمون والمسلمات، وقد رأيتم وسمعتم وقرأتم ما يفعله اليهود في إخواننا المسلمين في فلسطين بمباركة من أئمة الكفر في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأوربا وغيرها.
أسائلكم بعد هذه الصور المفزعة من هو الإرهابي الحقيقي؟ من هو الذي صنع ويصنع الإرهاب في بني الإنسان على وجه البسيطة؟ من هو الذي يقود العالم كله إلى الاضطراب والفوضى؟ ما الفرق بين إزهاق أرواح في نيويورك وواشنطن وبين إزهاق أرواح بريئة بغير حق في جنين ورام الله وبيت لحم ونابلس؟ ما الفرق بين هدم مبنى على ساكنيه في نيويورك وبين هدم آلاف المنازل على ساكنيها في جنين ونابلس وقليقلة؟ ما الفرق بين ما ارتكبته النازية خلال حصارها لوارسو في بولندا أثناء الحرب العالمية الثانية وبين ما يرتكبه شارون ويهود الآن في فلسطين؟
وإذا كان العالم الإسلامي بجميع هيئاته أدان هدم برجي مركز التجارة في أمريكا فإن بوش المسرور بكلابه في مزرعته بتكساس ما قال ولا كلمة واحدة يدين فيها مجازر جنين ولا كلمة يرضي بها المتردية والنطيحة والمنخنقة والموقوذة من أبناء الشارع العربي، بل قال عقيدته وصرّح بحقيقة قلبه فقال: إن ما تفعله إسرائيل حق مشروع.
وما كنت واللهِ الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وقال فيه يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [المائدة:51]، ما كنت انتظر من بوش غير هذا، ولكن المنافقين لا يفقهون.
عباد الله، إن أمريكا وغير أمريكا لن تستطيع النجاة والإفلات من عقوبة ما تفعله، ولئن استطاعت اليوم فلن تستطيع غداً، وإن إرهابها الذي تفرضه على الشعوب مدرسة تدرس فيها الأجيال التي تنتظر وعد الله، وإذا كانت سيدة مصرية توفيت قبل أيام بأزمة قلبية حادة وهي تجلس أمام إحدى القنوات الفضائية بعد مشاهدتها مجازر جنين فلم تتحمل ما رأت وتوفيت على الفور كما ذكرت ذلك جريدة الحياة أمس، فإن مليار مسلم يشاطرونها نفس الشعور، وستبقى هذه المأساة جمراً تحت الرماد تهب عليه العواصف فتوقده في أي لحظة من اللحظات.
وإذا كان يهود الخنازير يأكلون ويشربون وينتقمون إلى اليوم لأحداث الماضي، فإن المسلم لن ينسى دير ياسين وصبرا وشاتيلا وجنين اليوم.
وإنني أزف إليكم البشرى معشر المسلمين والمسلمات، فمع هذا الظلام الدامس والواقع المر فإننا نأنس ونتسلى بمواقف مشرفة للجيل القادم، فالمأساة جسدت وعياً جماهيرياً بحقيقة يهود وبغضهم وكراهتهم، وهذه الحقيقة واضحة كالشمس لا يستطيع حجبها أحدٌ، كائناً من كان، وقد تمثل هذا الوعي بكراهية اليهود ومن عاونهم، وقد اتجهت كثيرٌ من الأسر في العالم العربي إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية في السوق.
وكنا في الماضي نرى عُقم هذا الأسلوب، لكن الواقع المرُ لهذه الشركات بعد المقاطعة أثبت جدوى هذا الأسلوب، ففي مصر أعلنت شركات كبرى أمريكية وغيرها إفلاسها، وفي الأردن كذلك، وهاهم الخبراء الاقتصاديون الغربيون يحذرون من كارثة اقتصادية كبرى قادمة.
والمأساة أيضاً جسدت الولاء بين المسلمين، مـا أحسن الولاء عندما ينبت عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، واسمعوا هذه الحادثة التي تجسد المعنى الحقيقي للولاء بين المسلمين، طفلٌ في الثامنة من عمره، عفواً! شبلُ في الثامنة، رأى زملاءه في المدرسة يجودون بريالاتهم، ومصروفهم اليومي لوجبة الإفطار.. رآهم وقد ازدحموا حول صندوق لجمع التبرعات.. يقدمونها سخيةً بها نفوسُهم, رضيّةً بها قلوبُهم، تقدم نحو معلمه يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى، وأخرج من جيبه الصغير تبرعاً سخياً شجاعاً هو أغلى ما يملك (نبّاطة/نبّالة).. دفعها نحو معلمه, وطلب إليه أن يوصلها لأبطال الحجارة عوناً لهم!! قدمها ولسان حاله يقول: هذا ما أملك أن أقدمه في هذا الزمن هذه ورقة العمل التي أتقدم بها في مؤامرة السلام، هذه لغتي، هذا عطائي، خذها معلمي! أوصلها أرجوك لإخواني! قدمها لهم مع مبادرات السلام, وخطابات الشجب والاستنكار! قدمها أستاذي! لم أعد أحب أن ألهو بها وأصطاد الطيور. لم يعد للهو كبير مكان في حياتي.. لا تعجب أستاذي! لا تقل بأني مازلت صغيراً، كلا أستاذي! أنا كبير بهمتي سأخرج يوماً من المسجد لأقود الجحافل, سنردد يوماً: الله أكبر .. معلمي الفاضل! لا تستغرب أعلم أن هذه المبادئ لم نتعلمها في مناهجنا، وإن كانوا يعدونها مناهج إرهابية، ولكنه جيل صنعه القرآن وأنضجته الأحداث، جيل سيستعلي على الباطل سيدوس اللذة بقدميه, وسيرفع للسماء رأسه , جيل سيمضي مردداً:
لَئـِن عَرَفَ التَّاريخُ أوساً وخزرجاً فلله أَوسٌ آخرون وخـزرجُ
وَإِنَّ سجوفَ الغيبِ تُخفـي كَتَائِبـاً مُجَاهِدةً رَغْمَ الزَّعَازِعِ تخرجُ
معلمي! خذها وخذ مصروفَ جيبي هذا اليوم، خذ حقيبتي كل ما أملك قدّمه لأولئك الرجال.
معلمي! خذ لُعبتي ولْتعلم الدنيا بأنا مسلمون، نعم مسلمون، في تاريخنا: سعد وخالد والمثنى وعكرمة، فيه كل من صافح العلا بالأيادي المكرمة، ولئن نـزع الأعداء منا سلاحنا وقتلوا رجالنا فما أخذوا ولن يقدروا أن يسلبوا منا عزتنا وإباءنا. معلمي! خذها ( نبّالة ) طفل مسلم, خير من ألف مؤتمر وألف عريضة وألف ألف مبادرة، خذها وقدمها كورقة عمل في درب العزة والكرامة؛ فقد ملّت الأمة الطرح الهزيل والحلول الرمادية، خذها أستاذي! فقد سئمنا التبعية والذل.. خذها أستاذي! عربون وفاء للقضية والثمن دمي ودم إخوتي ننثره على أرض فلسطين كما نثرنا ريالاتنا في صندوق جمع التبرعات قبل قليل.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
|