أيها المسلمون، لقد قص الله علينا في كتابه قصص طغاة كثيرين؛ طغوا وبغوا وملكوا البلاد، فأكثروا فيها الفساد، واستعبدوا العباد، ولكنْ بعد هذا الجبروت والطغيان و الإفساد: حلّ عليهم عذاب الله، فلم تُغن عنهم جموعهم شيئاً، فأين عاد وثمود؟ وأين نوح وأصحاب مدين؟ وأين فرعون وهامان وقارون؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
ومن هؤلاء الطغاة الذين ذكرهم الله في كتابه: فرعون، ذلك الطاغية الذي علا في الأرض، واستكبر فيها، واستعبد أهلها، بل وادّعى الألوهية: فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ [النازعات:24].
فنقف ـ يا إخواني ـ مع آيات تتحدّث عن هلاك هذا الطاغية؛ فإن فيها العظة والعبرة، خاصة في وقتنا الآن الذي نعيشه، وهذه الآيات هي من سورة الشعراء، يقول الله عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ إِنَّ هَـؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ فَأَخْرَجْنَـٰهُمْ مّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِى إِسْرٰءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ [الشعراء:52-68].
خرج موسى عليه السلام بقومه ليلاً، متوجّهاً إلى الأرض المقدّسة، خرجوا مستخفين من فرعون وقومه.
وخُروجُ بني إسرائيل من مصر خسارة لقوم فرعون، لأنهم كانوا يستخدمونهم في أعمالهم ومشاريعهم ومصالحهم.
كما أن خروج بني إسرائيل خسارة لفرعون نفسِه، لأنه يعني هزيمتَه في معركته مع موسى، وكيف يسلّم فرعون وملؤه بالهزيمة؟
فما كان من فرعون إلا أن جيّش الجيوش، وأعلن حالة الطوارئ، وأرسل في مستعمراته ومدائنه حاشرين؛ ليجمعوا له الجنود لمطاردة موسى وقومه.
ولما أمر فرعون بالتعبئة العامة علل أمره بأن السبب هو موسى ومن معه، و وصفهم بأنهم: لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي: جماعات متشرذمة، لا أصل لهم ولا وطن، وهم ليسوا كثيرين؛ ولا يُشكّلون أغلبية، بل هم قليلون، والناس ليسوا معهم ولا يؤيدونهم! هكذا أغرى فرعون قومه بالخروج.
ولكن فرعون وقع في تناقض ظاهر، وهو لا يدري، فبينما وصف بني إسرائيل بأنهم شرذمة قليلون، وصفهم بأنهم غائظون له ولملئه: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، والمعنى: أن موسى ومن معه أغاظ فرعون وملأه؛ لأنهم خرجوا على نظامهم وحكمهم واستعبادهم!! فصاروا يشكّلون خطراً على مصالحهم.
وهذا اعتراف من فرعون بأن موسى وقومه خطيرون، مزعجون له ولنظامه، فإذا كانوا شرذمة قليلين، لا وزن لهم ولا قيمة، فكيف يكونون غائظين لدولة عظيمة كبيرة؟!!
وزاد فرعون في هجومه على موسى ومن معه، وفي تحذير قومه منهم، فقال: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ، أي: نحن جميعا بأجهزتنا واستخباراتنا متيقظون لهم، نرصد جميع تحركاتهم!! وهذا دليل ثان على خيبة فرعون وجنوده وأجهزته.
خرج فرعون بجنوده الذين حشرهم من مختلف المدن، ولحق بموسى ومن معه، وكان خروج فرعون بجنوده الخروج الأخير الذي لا عودة بعده، لذلك علّقت آيات القرآن على خروجهم، فقال تعالى: فَأَخْرَجْنَـٰهُمْ مّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ له الذي أخرجهم لهلاكهم ودمارهم؛ في الوقت الذي يظن الناس فيه أنهم خرجوا للقضاء على عباد الله الصالحين. فهم يمكرون بالمؤمنين، ولكن الله فوقهم أسرع مكرا، وهو أسرع الحاسبين.
لقد حان وقت انتقام العزيز الحكيم منهم؛ فأخرجهم من جناتهم، وبساتينهم، وقصورهم، أخرجهم من الخير والرفاه الذي كانوا فيها، خرجوا من النعيم إلى الجحيم.
سار موسى بأتباعه ليلاً، متوجهاً إلى المشرق، إلى البحر الأحمر، حتى يخرج من مصر إلى الأرض المقدسة.
ولما أشرقت شمس الصباح اقترب فرعون وجنوده من المؤمنين، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ، أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، ولما أشرقت الشمس كان موسى على الشاطئ، فوقفوا هناك؛ لأنهم ليس معهم سفن ولا قوارب.
فنظر بنو إسرائيل خلفهم، فرأوا منظراً في غاية الهول!! رأوا فرعون وجنوده مقبلين نحوهم، بعدّتهم وعتادهم. ماذا يفعل بنو إسرائيل أمام هذا الجيش العظيم المدجج؟
وبدأ الخوف يسري في قلوب بني إسرائيل، وسيطر علهم الفزع، ها هو فرعون وجنوده سينتقمون منا!! فأطلقوا صيحة مِلؤها الرعب، وقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ: لقد أدركونا، والآن ستكون المجزرة والإبادة علينا! هذه هي الضربة القاضية على الإسلام وأهله، لا بقاء لنا!! ففي حساب البشر ـ المادي ـ ليس أمامهم فرصة للنجاة، فكيف ينجون والبحر من أمامهم، والعدو من خلفهم!! فكل الحسابات البشرية تقول: إنهم مدركون، وأنه قد انتهى أمرهم!!
ولكن .. للإيمان والتوكل على الله حساب آخر، يعرفه نبيهم موسى عليه السلام، ولهذا طمأنهم وأزال خوفهم، فقال: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ. ثم قدّم لهم حقيقة قاطعة، علل بها سبب طمأنينته ويقينه؛ أن الله معه، وأنه سيهديه إلى التصرف المناسب، وسيخلّصه من أعدائه.
كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ربي معي بعلمه وحفظه وعنايته، أبدا لن يتخلّى عني. وهذا ما يجب أن يكون عليه المسلم؛ أن تقوى ثقته بربه وبنصره، فالقوة والاستعداد المادي والثقة بالعدد والعُدّة بدون تعلّقٍ بالله لا يغني شيئا.
أيها المسلم، قل وأنت تعيش في هذا الزمن الصعب: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ، إن الله لا يتخلّى عن أوليائه؛ كيف وهم يقاتلون في سبيله، ولِنُصرة دينه، يُقاتلون أعتى أمم الأرض كفراً وفجوراً وظلماً، فنصر الله لهم أكيد، وعون الله لهم قريب، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
نفعني الله ..
|