عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد، فيقول الله تعالى في سورة التوبة: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأرْضِ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحاب المسجد الأقصى الأسير، يا من اختصكم الله في الرباط في ديار الإسراء والمعراج، ها هي انتفاضة الأقصى تكمل عامها الثاني وتستشرف عامها الثالث، وقد اشتدت وطأة الاحتلال وزادت ممارساته ضد أبناء شعبنا العابد المرابط في محاولته البائسة للنيل من عزيمة هذا الشعب وكسر إرادته، لإخضاعه لمخططات الاحتلال وذل المحتلين. وقد جرب الاحتلال على شعبنا كل الممارسات الظالمة التي تجاوزت أبسط الحقوق الإنسانية التي كفلتها كل الشرائع السماوية والمواثيق والمعاهدات الدولية، ويجري هذا في زمن كثر الضجيج فيه حول حقوق الإنسان، وقد تفردت قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها أمريكا الظالمة في تصنيف الدول والشعوب والأشخاص وفق مصالحها وأهدافها الاستعمارية، فهذا زعيم إرهابي، وتلك دولة شريرة تصنف في محور الأشرار، وذاك شعب يحمي الإرهاب على حد زعمهم ويمارسه ضد المحتلين لأرضه، وفق منطق قلب حقائق الأشياء ويسميها بغير أسمائها، فغدت المقاومة المشروعة للاحتلال إرهاباً! والاستكانة للمحتلين سلاماً.
وأصبحت الضحية معتدية، والمعتدي مدافعاً عن نفسه، وأضحى المستوطن الغازي مواطناً، والمواطن الشرعي لاجئاً، وباتت الشرعية الدولية ومؤسساتها أداة لتحقيق أهداف القوى المتنفذة في هذا العالم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في ظل هذه المعايير الظالمة هب شعبنا يدافع عن عقيدة أمته وأرضها وحقوقها وكبريائها أمام الاحتلال الذي يقوم بحملة مسعورة لفرض واقع جديد، فتهويد القدس وتغييب وجهها العربي وملامحها الإسلامية وشطب هويتها الإيمانية التي تربطها بمكة المكرمة من خلال معجزة الإسراء، فنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أُسري من المسجد الحرام على المسجد الأقصى وعرج إلى السماوات العلى من هذه الرحاب الطاهرة.
فكانت القدس ومسجدها الأقصى محور هذه المعجزة وموطن بيعة الأنبياء لرسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وهي بوابة الأرض إلى السماء ومهوى أفئدة المؤمنين يشدون رحالهم إلى مسجدها، ويوحدون صفهم للذود عنها إذا ما رامها غاز، أو طمع بها غاصب، ولحكمة أرادها الله كانت القدس مؤشراً على قوة المسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، خلال العامين الماضيين من عمر انتفاضة الأقصى مارس الاحتلال وما يزال يمارس أبشع أساليب القهر والعقوبات الجماعية ضد أبناء شعبنا الفلسطيني من قتل واعتقال واغتيال وفرض للحصار وتقطيع أوصال الوطن وعزل المدن عن محيطها الريفي ومنع التجول على المواطنين ومحاربتهم في لقمة عيشهم وتضييق سبل الحياة عليهم بتجريف الأراضي الزراعية وقطع مئات الآلاف من الأشجار المثمرة وتدمير المصانع وهدم البيوت وتشريد سكانها، تحت ذرائع الأمن الواهية، ومنع الطواقم الطبية من القيام بواجبها في إسعاف الجرحى والمصابين وتركهم ينـزفون حتى الموت، كما حصل أخيراً في مجزرة حي الزيتون في غزة وغيرها من المجازر الكثيرة التي اقترفها الاحتلال ضد الأبرياء من أبناء هذا الشعب على امتداد ساحة الوطن تحت سمع وبصر العالم بأسره.
بل لقد استهدف الاحتلال بعض هذه الطواقم الطبية، فقضى كثير من أفرادها شهداء أثناء تأدية الواجب، لينضموا إلى عشرات الألوف من الشهداء والجرحى والمعتقلين من أبناء هذا الوطن الذين قدموا من دمائهم ومهجهم أسمى التضحيات، نيابة عن أمة تخاذلت عن نصرة الحق وراح حكامها يستجدون حلول قضاياها من القوى الطامعة بأرض الإسلام والمسلمين.
وصدق الله العظيم حيث يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [محمد:31]، فرحمة الله على شهدائنا الأبرار وأسرانا البواسل الذين سطّروا بدمائهم وأرواحهم سفر الكرامة لشعبنا وأمتنا، وأضاؤوا مصباح الحرية في ليل الظلم والظلام الذي يخيم على عالمنا اليوم، فمزيداً من الصبر والثبات يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
واسألوا الله منازل الشهداء بقلب خاشع، ولسان صادق، ويقين لا يخالطه الشك ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))[1] وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد))[2] أو كما قال فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه أبو يعلى في مسنده منت حديث أنس، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(2556).
[2] رواه الترمذي في كتاب الديات ح(1421)، وصححه الألباني.
|