أما بعد, عباد الله، أيها المؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً ونبياً:
في هذه الخطبة، وفي هذا الأسبوع أعرض لكم عبر هذا المنبر المبارك، مشكلة اجتماعية، تهم كل مسلم ومسلمة، تهم كل غيور وحائرة، إنها مشكلة طالما طُلب مني طرحها بين أيديكم، رغبة في إيجاد الحلول المناسبة، وإنتاج وقطف الثمار الطيبة، إنها مشكلة تهم الآباء و الأبناء، تهم الأمهات والبنات، والأخوة والأخوات، مشكلة تهم الأسرة كاملة، لذا فإني أحملكم أمانة تبليغ هذه الخطبة إلى من في البيوت من النساء والذرية، فهي قضيتهم كما هي قضيتكم، ومشكلتهم كما هي مشكلتكم، أسأل الله لي ولكم السداد والصواب.
عباد الله, عنوان هذه الخطبة الوأد العصري, نعم الوأد العصري! عادت بنا الأيام ودارت بنا الدنيا، ففي الجاهلية الجهلاء كان الوأد الجاهلي للمرأة، كان الرجل إذا ولد له أنثى اسود وجهه وغضب واحتار ما يصنع بها, أيمسكها على هون ومذلة من أقربائه وجماعته أم يدسها في التراب ويستريح منها إلى الأبد، وقد صور القرآن هذا المشهد أحسن تصوير بقوله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلاْنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
لكن الإسلام دين الرحمة والسماحة، دين العدل والحكمة، رفض هذا الأسلوب المشين مع المرأة ودَسَهُ في التراب كما دسَ معه أفكار الجاهلية وإهانتها للمرأة فقال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه)) ـ أي معاً ـ وقال في الحديث المتفق عليه: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) وعند أحمد وابن ماجه ((من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وسقاهن وكساهن من جدته ـ أي من جهده وماله ـ كن له حجاباً من النار)).
فأصبحت المرأة عزيزة في الإسلام بعد ذل الجاهلية، كريمة في الإسلام بعد إهانة الجاهلية، محبوبة مرغوبة في الإسلام بعد بغض وطرد الجاهلية.
واستقرت مكانة المرأة مرموقة شريفة حتى تزلزلت قواعد الشريعة من قلوب بعض الناس في هذا الزمان، فكرهوا المرأة مرة أخرى، ونسوا أو تناسوا حث الشريعة على تربية البنات وإعالتهن، ولذا قال واثلة بن الأسقع: (إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر) يقول من بركة المرأة أن يكون بكرها أنثى، لأنها ستكون بذلك وفق ما جاء في كتاب ربها حيث قال تعالى: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـٰثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ٱلذُّكُورَ [الشورى:49] فقدم الإناث تمييزاً لهن.
إن كراهية البنات وأد عصري تفشى في كثير من المجتمعات، وهذا أمر خطير يُودي بكثير من حقوق المرأة على مدى حياتها، وفي كل مرحلة من مراحل حياتها تجد المرأة من مجتمعها مضايقة وتضييعاً لحقوقها التي أقرها لها الدين والعقل. فما مضى من الحديث كان عنها وهي طفلة صغيرة فإذا ما شبت المرأة وأصبحت محل أنظار الخطاب، جاءت المصيبة الأخرى لها! يتقدم الشاب الملتزم العاقل فيرده الولي لبساطة دخله، ويتقدم الثاني فيرده لأنه يشترط راتب ابنته الموظفة له، ويتقدم الثالث فيرده لأنه من أسرة بعيدة أو قبيلة ثانية، وهكذا تستمر الأعذار والردود، حتى يفوت الشابة قطار الزواج؛ بسبب تعنت الولي وشروطه, فإذا جاوزت الثلاثين أغمضت عنها أعين الشباب، وأصبح محكوماً عليها بالبقاء وملازمة بيت والدها حتى يأتي أمر الله، فإذا أبصر الوالد خطأه في ابنته أراد أن يعالج الخطأ فزوجها من أي شاب، فتقع بين كفي شاب مفترس، ضائع في نفسه مضيع لغيره، لا يعرف للزوجة حقوقاً، ولا للحياة معنى، همه وحياته سهرة وسيجارة، فيدمر الوالد حياة ابنته، ويكتب عليها الشقاء الدائم مدى الحياة أو حتى يحكم الله.
وكم من القصص الواقعية التي يعرفها الناس حصلت وما زالت تحصل بين الفترة والأخرى, ولكن أين الذين يعتبرون ويأخذون العبرة بغيرهم قبل أن يأخذ الناس العبرة بهم، استمعوا لهذه القصة التي شاعت وانتشرت بين الناس, والكثير منكم يعرفها غير أني أسوقها لكم للذكرى والعبرة فقط:
شابة وبنت موظفة وقعت في مشكلة عدم البصيرة عند الوالد، فحكم عليها بعدم الزواج، رغبة في راتبها الشهري الذي يتمتع به، ولما كانت المرأة إنسانة لها من المشاعر والأحاسيس المرهفة، ترى زميلاتها وهن يلدن البنين والبنات، وهي تعيش في شقاء الوحدة وحرمان المتعة المباحة، وهي لا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة ولا تستطيع أن تعبر عما في صدرها لحيائها وحشمتها، كتمت تلك البنت أمرها في صدرها، احتسبته عند الله، وشاء الله أن يمرض ذلك الوالد الظالم لحقها مرض الموت، فلما أحس بدنو أجله؛ أدرك فداحة خطئه في ابنته المسكينة، وأراد أن يطلب منها السماح، فناداها وطلب ذلك وهو في سكرات الموت، فردت البنت رد المتحسر على ضياع حياته، ردت رداً انطلق من قلبها قبل أن ينطلق من لسانها، ردت وهي تتقطع حسرات على ذهاب شبابها وحرمانها من أمومتها ردت: يا أبي, قل آمين. فقال الأب: آمين قالت: يا أبي حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج.
قالت ذلك؛ لأنها رأت زميلاتها وصديقاتها يتبادلن التهاني بمناسبة زواجهن، ويتبادلن التبريكات بمناسبة مواليد السعادة الذين رزقنهم، قالت ذلك لما أحست من الجميع نظرات الحزن على مستقبلها؛ قالت ذلك لما أدرجها الجميع في سجل العانسات.
أليس هذا وأدَ البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
عباد الله, ثم تاتي مرحلة أخرى من حياة المرأة تتجرع فيها ألواناً من الإهانة والإذلال, إنها مرحلة الزوجية, تتزوج المرأة, وتترك بيت أمها وأبيها الذي طالما لعبت فيه ومرحت, تركته لأنها خرجت تبحث عن السعادة في مكان آخر, في عش الزوجية, تتصور أن تجد في ذلك العش الزوج الذي يحنو كأبيها ويعطف كأمها, وبعد أن تدخل هذا العش تجد فيه الوحش المفترس، والجمل الهائج الذي لا يعرف لقلبها طريقاً، ولا لودها سبيلاً، قد حول بيته لمقهى تدار فيه كؤوس الشاي على لعب [البلوت وصكيك الكيرم]، وسهرات الأفلام الرخيصة, وتظل المسكينة تندب حظها، وترجو ربها أن يفرج كربها.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
سبحان الله, أما علم ذلك الزوج الفاشل أن لزوجه عليه حقاً! وأنه أخذها زوجة ولم يأخذها أسيرة ولا خادمة! أما علم أن الله جعل له هذه الزوجة ليسكن إليها، لا ليسكن إلى السهرات والضياع هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
ثم تكبر تلك المرأة وتلد البنين والبنات، وتصبح أماً، فتجد نوعاً آخر من الإهانة والقهر والوأد، إنه عقوق الأولاد لوالديهم، فيتقطع قلبها حزناً، وتتفتت كبدها ألماً، فإذا ما شب الأولاد وتزوجوا، جعلوا رضا الزوجات نصب أعينهم، وألقوا بحب الأم وحنانها وراءهم ظهرياً، قتلوا أمهاتهم قتلهم الله.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
إن مكانة المرأة مصونة محفوظة في الإسلام، محفوظة بالكرامة والاحترام، ولكنها امتدت إليها أيدي البطش والجهل، لتدنس مكانتها، ولتشوه الإسلام في نظرتها، مدعية أن ذلك منهج الإسلام أو أن ذلك من حكمة العقلاء، أومن أعراف الأجداد والآباء، اعتدوا على المرأة في كثير من حقوقها المشروعة، اعتدوا على حقها في الحجاب، حقها في الحشمة، حقها في الستر، فأخرجها الأب أمام أبناء أخيه وأبناء أخواته، وأخرجها الزوج أمام أخيه و أقربائه، وزعموا أن هذه الأعراف والتقاليد، تباً لها من أعراف، وسحقاً لها من تقاليد، أهانوا المرأة وأخرجوها وقد كانت درة مصونة في الإسلام, أخرجوها لتلامس الأيادي الظالمة فتتشوه بنجاستها, اعتدوا على حق آخر من حقوقها وهو حقها في الميراث، حقها من مال أبيها وأخيها وزوجها وابنها، زاعمين أن ذلك فضيحة وعار، والعار من عارض شريعة الجبار، العار من كره ما أنزل الله حتى أدخله الله النار، العار من حرم الأنثى الضعيفة، واستغل حياءها، وأكل أموالها ليقيم عليها تجارته ومشاريعه، ذاكم هو العار، أما مطالبة المرأة بحقها وإرثها فهو حق مشروع شرعه الله من فوق عرشه لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً [النساء:7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ...
|