أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار:6-8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المصلون، هذه الآيات الكريمة من سورة الانفطار، وهي مكية، ونزلت بحق المشرك أُبي بن خلف، من زعماء قريش، والتي تصف أُبيّ بالغرور والتكبر، هذا المغرور الذي حاول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بادره بطعنة سقط فيها عن فرسه، وذهب أدراج الرياح.
أيها المسلمون، ومثل أبي بن خلف أخوه أميّة بن خلف، الذي سبق أن لاقى نفس المصير في معركة بدر، والذي كان من المتكبرين والمتغطرسين والمغرورين أيضاً، وقد لاقى حتفه على يد الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه.
وأميّة هذا الذي كان يعذب بلالاً بسبب إسلامه، فيردد بلال شعاره الإيماني قائلاً: (أحد أحد)، وهذا الشعار قد رفعه بلال مرة أخرى في معركة بدر، وأعطى أميّة ما يستحق من الضربات القاضية، وانتهى الغرور بأميّة إلى جهنم وبئس المصير.
أيها المسلمون، لقد لاقى أبو جهل نفس المصير الذي لاقاه كل من الأخوين أُبي وأميّة، وأبو جهل الذي كان من أشد قريش تعنتاً وتسلطاً وغطرسة وغروراً، فقد كان شؤماً على قومه، مغروراً بقوته، ساق أهل قريش إلى معركة بدر، ولكن الله عز وجل أراه المذلة في هذه المعركة، فقد طعنه غلامان من الأنصار بطعنات قد أسقطته على الأرض مغشياً عليه، فجاء الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فوقف على صدر أبي جهل وقال له: يا عدو الله قد أخزاك الله، ويبصر أبو جهل عبد الله بن مسعود، وهو واقف على صدره، فلم يحتمل غرور أبي جهل هذا الموقف، فيقول لابن مسعود: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقىً صعباً. فيقول ابن مسعود: خذها يا عدو الله.
هذا أبو جهل المغرور الذي لم يتصور أن ابن مسعود الذي كان راعي الغنم عنده هو الذي يقف على صدره ويقتله في معركة بدر، ولكن الله نصر المسلمين الذين نصروه، فالله عز وجل أكبر من المغرورين، أكبر من المتكبرين، أكبر من العتاة الفاسدين المفسدين.
أيها المسلمون، لقد حرم الإسلام صفة الغرور في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة فقد وردت في القران الكريم مكررة خمساً وعشرين مرة فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ [لقمان:33]، والغَرور بفتح حرف الغين، الغَرور هو الشيطان للدلالة على أن صفة الغرور هي صفة مقيتة مرتبطة بالشيطان، وتجرّ صاحبها إلى مهالك كثيرة، وقال عليه الصلاة والسلام لعمّه العباس: ((أنهاك عن الشرك بالله والكبر، فإن الله يحتجب عنهما))[1] فقد ربط عليه الصلاة والسلام الكبر بالشرك للدلالة على الإثم الذي يلحق من يتصف بهذه الصفة الخبيثة.
أيها المسلمون، إن المتتبع لسيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يرى أن صفات التواضع والحلم والعدل قد تجسدت في شخصه الكريم، وقد ورد أن رجلاً أُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابته رَعْدة وخوف فقال له عليه الصلاة والسلام: ((هوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد))[2]؛ والقديد هو اللحم المجفف للدلالة على التواضع.
وحرص الصحابة الكرام على الالتزام بصفة التواضع خوفاً من أن يتسرب إليهم الغرور، فحينما كان أبو بكر الصديق يسمع مدح الناس له كان يقول: (اللهم أنت أعلم بي من نفسي ،وأنا أعلم بنفسي منهم،واغفر لي ما لا يعلمون،ولا تؤاخذني بما يقولون)، وورد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجلس مختلياً بنفسه ويقول مخاطباً نفسه: يا ابن الخطاب كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وذليلاً فأعزك الله، وكان يعاتب نفسه ويبكي خشية أن يظلم غيره، وخشية أن يتسرب الغرور إلى نفسه. فأين حكامنا وزعماؤنا اليوم من هذه المواقف الإيمانية.
أيها المسلمون، لقد سار أجدادنا وخلفاؤنا على بركة الله في بقاع العالم ينشدون العدل ويعاملون شعوب البلاد المفتوحة بحسب تعاليم الإسلام، لا تفريق ولا تمييز ولا غرور لا مصادرة لأراضيهم، ولا هدم لبيوتهم، ولا تشتيت لعائلاتهم، فدانت لهم شعوب الأرض في فترة وجيزة من الزمان، وتمكن الإسلام العظيم من صهر قوميات مختلفة في بوتقة واحدة، هي بوتقة الإسلام، في رابطة جديدة، هي رابطة العقيدة الإسلامية، وحكم الإسلام جميع المواطنين حكماً عادلاً، لا جبروت فيه ولا غطرسة ولا كبرياء ولا غرور.
أما الأمم والشعوب التي اتصفت بالعدوان وعاملت البلاد المفتوحة بالظلم والتسلط والتمييز والغرور، فإنها سرعان ما تنهار دولتها ويذهب سلطانها إلى حيث لا رجعة، فماذا كان مصير الرومان واليونان؟ وماذا كان مصير الصليبيين والمغول والتتار؟ هذه سنة الله، ولن تجد الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في وقتنا الحاضر، فإن أمريكا المغرورة باسم محاربتها للإرهاب وباسم تبجحها بالسلام والديمقراطية والعولمة والشعارات المزيفة، فإنها تريد وتصمم على غزو العراق دون أي مبرر سوى أن أمريكا قد اتصفت بالعنجهية وبالغرور والتسلط والاستكبار والاستهانة بالأمة الإسلامية وبالمسلمين في العالم في العالم، وإن أمريكا ترفع شعار: من ليس معنا فهو ضدنا، وذلك بهدف تركيع دول العالم واحتوائها، وإننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نحمّل المسؤولية الخطيرة للحكام في العالم العربي والإسلامي الذين ينقادون للسياسة الأمريكية ولقرارات مجلس الأمن المزيفة، بأمر من أمريكا فيما إذا حصل هجوم أمريكي على العراق، فلا تتكبروا، الله أكبر، ولا تظلموا، فالله يمهل ولا يهمل، خففوا الوطء، ما أظن أديم الأرض إلا من جثث القتلى الأبرياء الذين تساقطوا نتيجة غروركم وغطرستكم وإرهابكم، ولكن سيبقى الإسلام العظيم هو الأقوى، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد))[3]. صدق رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
[1] روى نحوه المنذري في الترغيب والترهيب من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، ومثله في سنن البيهقي الكبرى(6/208)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب 1543
[2] رواه ابن ماجه في سننه(3312)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2677).
[3] رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي،(2865)، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة. |