أما بعد, فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد, فيقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ [البينة:5]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم على الله)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, حديثنا اليوم عن ركن عظيم من أركان الإسلام, ألا وهو الركن الثالث من أركان الإسلام, الزكاة التي قرنها الله في كتابه وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصلاة، ولذلك فقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وقال رضي الله عنه: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها:
الأولى: قول الله تعالى: أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ [النساء:59], فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
الثانية: قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلَوٰةَ وَاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ [النور:56] فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه.
الثالثة: قوله تعالى: أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ [لقمان:14] فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (من كان له مال تجب فيه الزكاة ولم يزكِّ سأل الرجعة عند الموت ـ أي سأل العودة إلى الحياة حتى يزكي ـ فقال رجل لابن عباس: اتق الله، إنما يسأل الرجعة الكفار، فتلا ابن عباس رضي الله عنهما على الرجل قول الحق سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ [المنافقون:10]).
مانعوا الزكاة سماهم الله مشركين فقال سبحانه: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ [فصلت:7,6].
مانع الزكاة توعده الله عز وجل بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع الله جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حده)).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته, مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع ـ وهو الثعبان ـ له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ أي شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق سبحانه وتعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ [آل عمران:180].
فيا من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاة هذا المال, اتق الله, فبسببك وأمثالك منع الناس القطر من السماء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين)) أي بالجدب والقحط ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا)).
الزكاة ـ يا عباد الله ـ طهارة للمال وطهارة للنفس؛ طهارة لنفس التقي من الشح والبخل, وطهارة لنفس الفقير من الحسد والبغض والحقد، يقول تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, والله الذي لا إله إلا هو, لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما رأينا فقيراً ولا مسكيناً ولا جائعاً ولا عارياً ولا محروماً، وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم أن أقيم العدل في الأمة, ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيراً واحداً في أنحاء الأمة، وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقاً إلى باريس غرباً ومن حدود سيبريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكيناً واحداً يأخذ الزكاة, وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمراً بأداء الديون وقال: اقضوا عن الغارمين. فقضى ديون الناس، وما زال المال فائضاً، فأصدر أمراً بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأعتق العبيد وما زال المال فائضاً في خزانة الدولة، فأصدر أمراً بتزويج الشباب وقال: أيما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين. تزوج الشباب وبقي المال.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, تجب الزكاة في أربعة أنواع من المال: في الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية, وفي عروض التجارة, وفي الخارج من الأرض من الحبوب والثمار, وفي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فإذا بلغ المال النصاب, وحال عليه الحول, وجبت فيه الزكاة، وقد بين الله سبحانه وتعالى مصرف الزكاة في كتابه الكريم فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلْفُقَرَاء وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْعَـٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرّقَابِ وَٱلْغَـٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60], فلا يجوز ولا يجزئ صرف الزكاة لغير هذه الأصناف الثمانية التي بينها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية, ولا يجوز للأغنياء ولا للأقوياء المكتسبين أن يأخذوا منها، فإن أخذوا منها فإنما يأخذون حراماً وسحتاً، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً, فليستقل أو ليستكثر))، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم)).
إخوة الإسلام, شهر رمضان شهر البر والإحسان، شهر المواساة والرحمة، شهر الإنفاق والصدقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، فما أحسن المعروف يا عباد الله! وما أحسن الجميل! يقول أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أحسن الجميل! والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسناً، وما أقبح القبيح! والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً).
ويقول الشاعر عن البذل والجود:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلـو وأما وجهه فجميل
والله سبحانه وتعالى يقول : مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)).
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زادكْ
فيا من أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك له في رزقه وفي دخله, أنفق على الفقراء والمساكين وتفقد الأرامل واليتامى والمحرومين، وأنفق أموالك في أوجه الخير والبر.
إذا كان بعض الجاهليين ـ يا عباد الله ـ لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين وهم وثنيون لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً, فما بال أهل الحق يبخلون بفضل الله على عباد الله؟!
فقدموا لأنفسكم ـ عباد الله ـ شيئاً تلقونه هناك، قدموا للقبر، قدموا للصراط، قدموا ليوم الفضائح والكربات، واعلموا أن من قدم خيراً فإنما يقدم لنفسه: وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ [البقرة:110, المزمل:20].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
|