أيها الأحبة في الله, ولما نقضت الصحيفة التي تعاهدت فيها قريش على مقاطعة بني هاشم، وافق ذلك موت أبي طالب، ثم موت خديجة رضي الله عنها.
فرأت قريش عند ذلك سبيلاً إلى النيل من النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تجده من قبل لمكانة أبي طالب. فتجرؤوا عليه، وكاشفوه بالأذى.
فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه، ويحموه كي يبلغ كلام ربه عز وجل؛ ولكن القوم كانوا أشد عداوة وأكثر أذىً, حتى مرّ عليه صلى الله عليه وسلم منهم شدة ما رآها من قومه.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: ((لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة [أي عقبة الطائف] إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليَّ ثم قال: يا محمد، ذلك فيما شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)).
فيالله ما أرحمه من نبي وأحلمه!
يناصبونه أشد العداء, فيرأف بهم ويرحم، وينصح لهم وقد غابت عنه عيونهم؛ شفقة أن يعذبوا في الحميم، ويحرموا جنات النعيم.
أيها الأحبة في الله, عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة حاملاً دعوته التي لم يتخل عنها طرفة عين. وبعد عودته تلك وقع له حادث الإسراء والمعراج.
فبينما هو في بيته في مكة، إذ فرج سقف البيت فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام، فنزل فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام، ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، وهذا من حكمة الله تعالى، وبقدرته التي لا يعتريها عجز ولا قصور.
ثم أسري به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق حيث صلى بالأنبياء فيه.
ثم عرج به إلى السماء الدنيا فاستفتح له جبريل، ففتح له ورأى فيها آدم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه، فردّ عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته.
وهكذا كلما مرّ بسماء سلم على من وجد فيها من الأنبياء فيردون عليه ويرحبون ويقرون بنبوته.
فقد وجد في السماء الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فكلمه بلا ترجمان، فعرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى، فقال له: بم أمرت؟ قال: ((بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجع، فوضع عنه، ثم رجع حتى أتى موسى، فقال له مثل ما قاله أولاً، فرجع، فوضع عنه، حتى بلغت خمس صلوات، فرجع إلى موسى فأشار عليه أن يسأل التخفيف، فقال صلى الله عليه وسلم: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلّم)) فلما بَعُد، نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
فيا من تهاون في الصلاة, تأمل في عظيم شأنها حيث فرضت بكلام من الله تعالى بلا ترجمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله, وقد مرّ صلى الله عليه وسلم في ليلته تلك على أقوام لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأله عنهم، فقال: ((هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
فيا من رقّ جلده فآذاه وخز إبرة, ألك صبر على مثل تلك الحال؟!
وفي ليلته تلك أتاه جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: ((هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك)).
وكان الإسراء والعروج به صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده، ولم يثبت في تلك الليلة أنه رأى الله تعالى؛ بل قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نورٌ أنى أراه)) وفي لفظ: ((رأيت نورًا)) أخرجه مسلم.
فلما أصبح صلى الله عليه وسلم غدا إلى قومه فأخبرهم بما أراه الله تعالى من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له، وضراوتهم عليه. فسألوه عن وصف بيت المقدس ليتبينوا صدق قوله، فرفعه الله تعالى إليه، وجلاه له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، فلا يسألونه عن شيء إلا نبأهم به.
وأخبرهم عن عيرهم التي تَقْدَمُ عليهم, ولكنهم غلب عليهم الهوى، فما زادهم ذلك إلا نفورًا. وبقي المؤمنون الصادقون على التصديق التام لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مقدّمهم في ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
ولم يثبت في تحديد تاريخ المعراج شيء، فهناك خلاف كبير فيه.
أما من يدعيه في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر, شهر رجب، ويقيم فيه من أنواع البدع ما يجمع أنواعًا من الشر, فهو ليس على شيء.
فهب أن الإسراء والمعراج كان ليلة السابع والعشرين قولاً واحداً, فهل من دليلٍ واحدٍ على الاهتمام بها، وتخصيصها على غيرها بإحيائها؟ كيف والأمر لم يكن في إحيائها بالصلاة؟ ولكن بإماتتها بأنواع من المنكرات وعبارات الشرك الصريح.
أيها الأحبة في الله, ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يفتر عنها طرفة عين.فكان لا يدع موسمًا يجتمع فيه الناس إلا اغتنمه ونادى فيهم بتوحيد الله تعالى, حتى هيأ الله تعالى نفرًا من الأنصار قدموا موسمَ الحج، فرأوا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا حاله، وقد كانوا يعلمون بعض صفاته لما كانت تخبرهم به يهود.
فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرًا منهم عند العقبة فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا,
وأصبح كل رجل منهم ينقلب إلى أهله ويدعوهم إلى الإسلام فيسلمون.
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم، ومجنّة وعكاظ، يقول: ((من يؤويني، ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي، وله الجنة))، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل يدخل من مضر أو اليمن إلى ذوي رحمه، فيأته قومه، فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل، فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه، فأتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدناه بيعة العقبة.
قال: فقلنا: يا رسول الله نبايعك. فقال: ((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة)) فبايعوه على ذلك.
ثم قال قائل منهم: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
أيها الأحبة في الله, وبعد أن تمت بيعة العقبة الأولى والثانية، كان ذلك مقدمة لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ومع تلك الهجرة نبدأ ثامن الدروس إن شاء الله تعالى.
|