أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه واجتنبوا نهيه ولا تعصوه.
عباد الله، تحدثت في الخطبة الماضية عن الزواج وعظم أمره والأمر بتيسيره والترغيب في تعجيله، وذكرت بعض عوائقه، وأذكر في هذه الخطبة بقية ما أعلم من العوائق لنسعى جادين للقضاء عليها، نحث بذلك أهل النخوة والعفة والرجولة والغيرة أن يسارعوا إلى نبذها وازدراء أهلها والتشنيع عليهم، والأخذ على أيدي سفهاء القوم حتى لا يخرقوا سفينة المجتمع فنغرق فيها جميعاً، فليس في الأمر حريات شخصية أو خصوصيات ذاتية بل هو أمر يهم الجميع ممن يقدرون الأمور قدرها ويحسبون لها حسابها.
عباد الله، من هذه العوائق تأخر كثير من الشباب عن الزواج بحجة أنه لم يكوّن نفسه على حد تعبيرهم، فنقول لهؤلاء: إن البركة إنما تأتي مع الزواج، لأنه طاعة لله ورسوله وطلبٌ للعفة، والله تبارك وتعالى يقول: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فالذي ييسر لك الزواج سييسر لك الرزق لك ولأولادك نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) أخرجه أحمد والترمذي.
ويقول الله تبارك وتعالى: وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، ويقول الصديق رضي الله عنه: (ابتغوا الغنى بالزواج).
أيها الأخوة، وإني لأعرف جملة من الشباب تزوجوا قبل إتمام دراستهم وقبل أن يتوظفوا وهم ـ بحمد الله ـ ناجحون في زواجاتهم، فالأرزاق ليست محصورة في الوظائف، بل إنها في غير الوظائف مهيأة بلا حدود، ولكنها تحتاج إلى سعي واجتهاد وحسن تفكير وتدبير، ويبعد أن يحصل عليها شعب أَلِفَ البطالة وركن إلى الخمول، شعب خيراته بيد غيره من خارج بلاده، بل ممن ليسوا على دينه هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ [الملك:15].
ومن العوائق أن يشترط بعض الرجال مميزاتٍ لا تكاد تجدها إلا في نساء الجنة، يجنح إلى المثاليات ويرسم في ذهنه صوراً من التخيلات، ونحن لا نلوم من يطلب مطالب معقولة ويكون نسبياً في رغباته، فالمرأة تنكح لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك.
فعليك أن تجعل جل اهتمامك بالمتدينة فهي خير لك لو كنت تعلم، واحذر من خضراء الدِّمَن وهي المرأة الحسناء في مَنْبِتِ السُّوء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء مثقوبة الأذن سوداء ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجه.
ثم تأتي من بعد ذلك المميزات الأخرى، فعناية الإسلام إنما هي بذات الدين، لأنها سوف تكون حاضنة أبنائك.
فالأم أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
ومن العوائق لجوء كثير من الرجال للزواج من خارج البلاد من نساء لا يعلم عن أسرهن ولا عن نشأتهن شيئاً، وربما يكن في بيئات بالغة الأسون والعفن، وهم بذلك يتذرعون بكثرة مهور بنات البلد، وهذا أمر صحيح ولكنه لا يُسَوّغ أن يضحي الإنسان بنفسه ويتزوج امرأة تكون أماً لأولاده لا يتحقق منها على الوجه المطلوب، ولأن الزواج من بنات بلدك ممن عرفت عاداتهن وأخلاقهن وأسرهن أقرب للوئام والاتفاق، أما الزواج من الخارج ففيه بعض المضار التي تعود على الزوجين معاً، ولعله لا يخفى عليكم كثرة مشكلات تلك الزواجات، وإني لأعجب أشد العجب من الذين يشددون في مسألة الحسب والنسب، والذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تزوج واحد منهم بمن تكون دونه في النسب ولا يلومونه إذا تزوج من خارج البلاد ممن لا يعرف لها نسب أصلاً.
أليس في ذلك تناقض عجيب، وأعوذ بالله أن أدعو بذلك إلى عصبية مذمومة، ولكن السعي إلى أن يكون الزواج موفقاً مطلب سديد، ونحن نبحث عن الوسائل المعينة على ديمومة الزواج وبعده عن المشكلات والمعوقات.
ومن معوقات الزواج: تأخير زواج الكبيرة من البنات، هو في الغالب مؤثر على زواج أخواتها، وهذا مما لا ينبغي. فمن أتى نصيبها وجب تزويجها وعدم تأخيرها لأجل أختها، فليتق الله الأولياء وليعلموا أن هذا ليس من الدين في شيء، فلا يكونوا سبباً في حرمان جميع بناتهم من الزواج لأجل واحدة منهن لأن في ذلك ظلماً عظيماً.
ومن المعوقات من قبل النساء: ترك العِنان لهن في فرض ما يشأن من الطلبات على الزوج من ذهب ومبالغ نقدية باهظة، مما يثقل كاهل الزوج المسكين، فاتقوا الله في ذلك وخذوا على أيدي سفهائكم حتى لا يكن سبباً لانتشار الفاحشة في مجتمعاتنا، لأن ذلك مما يسر سبيل الحرام وانتشار الزنا خاصة في هذا الزمان الذي سود الناس صحائفهم بشرورهم وفسادهم إلا من رحم ربك.
ومن المعوقات ما يبتجح به كثير من الناس من إكمال الدراسة بالنسبة للمرأة أو الرجل، وهو عذر غير مقبول خصوصاً بالنسبة للمرأة كما سبق بيانه، أما بالنسبة للرجل فنقول له إنك تستطيع أن تكمل دراستك وأنت متزوج، وقد يكون الزواج سبباً في تفوقك لحصول السكون والطمأنينة والاستقرار وراحة البال وقرة العين، وهذا مما يساعد الطالب على استجماع الفكر والتحصيل في الطلب لأنه إذا صفا ذهنه من الشواغل والقلاقل ساعده ذلك على مواصلة سيره، أما غير المتزوج فيكون مشوش الفكر مضطرب الضمير، لا يتمكن من التحصيل العلمي خاصة في هذا العصر الذي كثرت ملهياته ومغرياته ومثيراته، وجل تفكير الشباب إنما هو في قضاء الشهوة، والزواج يلبي لهم هذا المطلب.
وتصور الكثير أن الزواج عائق عن الدراسة إنما هو من تزيين الشيطان وتوهيمه، والتجربة خير برهان واسألوا أصحاب هذه التجربة فلا ينبئك مثل خبير، وإن كان الخوف من النفقة الزوجية والمطالب المالية فإن لذلك حلولاً كبيرة أشرت إلى بعضها في مقدمة الخطبة ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، والزواج لا يزيد الجاد إلا نجاحاً وجدية، وهو كذلك لا يجعل من الغبي ذكياً.
وأما العراقيل التي تكون من قِبَل الأسرة فهي تعنت الكثير من الناس في عدم تزويج بناته إلا من أبناء عمومتهن وأقربائهن وربما أنه بذلك يرغمها على من لا ترغب فيه ولا تنسجم معه وفي ذلك ظلم وعضل.
فحجر البنت على ابن عمها قد يكون إضراراً بها، وربما أن القريب ليس كفئاً لها من حيث الدين والخلق، ولا كفاءة إلا بهما ولا اعتبار لغير ذلك من أمور الجاهلية، فلا يجوز إرغامها عليه، وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنه عنها: (أن فتاة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي.. وأنا كارهة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاءه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء) أخرجه النسائي.
ومعلوم أن التزاوج بين القبائل مما يؤلف بينهم ويبعد عنهم نعرات الجاهلية، ولاشك أنه قد ثبت طبياً أن الزواج من القريبات مظنة للأمراض وعدم اكتساب صفات جديدة وجيدة وهو كذلك مظنة لقطع الأرحام فيما لو حصل طلاق بين الزوجين.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أن السائب قد ضعفت أجسامهم، فقال: مالكم؟ قالوا: نحن قوم لا نتزوج إلا من بعضنا، فقال: (يا آل السائب اغتربوا لا تضووا).
وكما قال الشاعر في مدح رجل:
رُبَّ فتى نال العلا بهمة ليس أبوه بابن عم أمه
ومن الظلم العظيم الواقع على النساء زواج الشَّغَار أو البدل، فهو نكاح باطل بإجماع أهل العلم لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.
فاتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ وزوجوا بناتكم من الأكفاء، وأنتم أيها المقتدرون زوجوا أبناءكم واسعوا في زواجهم فلا خير في أموالكم إن لم ينتفع بها أولادكم في حياتكم.
وأنتم أيها الشباب يا من تجاوزتم العشرين بل منكم من أشرف على الثلاثين ومنكم من تجاوزها إلى متى وأنتم في حسرات العزوبة ومصارع الشهوات، جدوا في الأمر واعلموا أن مركب أول كل أمر عسير ثم يتيسر.
تبدو الأمور على الثواني صعبة وإذا ولجت وجدت أمـراً هينـاً
اعلموا أن هناك من الأولياء من ينتظرونكم بفارغ الصبر لتعفوا بناتهم، ابحثوا عنهم تجدوهم ولا تسوفوا فإن العمر يذهب وزهرة الشباب تذبل، وإياكم وأن يعرف اليأس إلى قلوبكم طريقاً، فاتقوا الله، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
بارك الله لي ولكم ...
|