أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيا سعادة من اتقاه، ويا فوز من خافه في سره ونجواه، ويا فلاحَ من لم يزل بطاعته قائماً، وعن معصيته متباعداً ومتجانبا.
إخوة الإسلام، من المبادئ المقرَّرة في الإسلام وجوبُ التعاون بين الراعي والرعية، وفرضيةُ حفظ المسؤولية المناطة بما يحقق الخير للأمة جمعاء، ويحفظ المصالحَ للمجتمع، ويكفل الأمن والرخاء، ولا يستقيم للأمة أمرٌ ولا يتَّسِق لها شأن إلا إذا قام كل بمسؤولياته، والتزم بواجباته، بصدق وإخلاص، وتفانٍ وتضحية، ومراعاةٍ لحدود الله وأحكامه.
ومن هنا جاءت الشريعة بكل المقومات الأساسية والركائز الأصيلة التي تحفظ مقاصد المسؤولية، وتدْرأ عنها أسباب الانحراف وعوامل الشر والفساد. ومن هذه المقومات وتلك الركائز النهيُ الأكيد والزجر الشديد عن جريمة الرشوة أخذاً وإعطاءً وتوسُّطاً.
عباد الله، الرشوة مَغْضبة للرب ومَجْلبة للعذاب، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لعن رسول الله الراشي والمرتشي، رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح[1]. وفي المسند وغيره بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه قال: لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش[2]. وتأسيساً على هذه الدلالات الصريحة ولما رواه الطبراني بسند جيد عن النبي أنه قال: ((الراشي والمرتشي في النار))[3]، تأسيساً على ذلك قال أهل العلم كالذهبي وغيره: "إن الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب".
أيها المسلمون، الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، يقول جل وعلا: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ويقول سبحانه في شأن اليهود: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، يُروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية)[4].
إخوة الإيمان، الرشوة داءٌ وبيل ومرض خطير، خطرُها على الأفراد عظيم، وفسادها للمجتمع كبير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحد إلا وحُجبت دعوته، وذَهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، في الحديث: ((كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به)) قيل: وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)) رواه ابن جرير وغيره[5].
الرشوة ـ أيها الفضلاء ـ تُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، تفسدُ أحوالها، وتنشر الظلم فيها، بل ما تفشَّت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقعت في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانةُ محلَّ الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل الأمن. والرشوة في المجتمع دعوةٌ قبيحة لنشر الرذائل والفساد، وإطلاق العنان لرغبات النفوس، وانتشار الاختلاف والتزوير، واستغلال السلطة والتحايل على النظام، فتتعطل حينئذ مصالح المجتمع، ويسود فيه الشر والظلم، وينتشر بينه البُؤس والفقر والشقاء، في المسند مرفوعاً وله شواهد: ((ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب))[6].
أيها المسلمون، حقيقة الرشوة كلُّ ما يدفعه المرء لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يحل له، وهي تأتي على صور كثيرة، من أعظمها ما يُعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ من الناس. ومن صُورها دفع المال في مقابل قضاء مصلحةٍ يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدون هذا المقابل، أو هي كما قال بعض أهل العلم: ما يؤخذ عمّا وجب على الشخص فعله. ومن صورها أيضاً من رشى ليُعْطى ما ليس له، أو ليدفع حقاً قد لزمه، أو رشى ليُفضَّل أو يقدَّم على غيره من المستحقين.
أيها المسلمون، الرشوةُ في الإسلام محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هديةً أو مكافأة أو تركةً، فالأسماء لا تغيِّر من الحقائق شيئاً، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن المقررات في شريعة محمد أن هدايا العمَّال غلول، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه وموظفيه، أياً كانت مسؤولياتهم، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم، روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)) الحديث[7]، قال الخطابي رحمه الله: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي، ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه، [وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه] استيفاؤه لأهله" انتهى[8]، وقال الشوكاني رحمه الله: "إن الهدايا التي تُهدى للقضاة ونحوهم هي نوعٌ من الرشوة؛ لأن المُهدي إذا لم يكن معتاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوِّي به على باطله، أو التوصل بهديته إلى حقه، والكل حرام"[9]، وقال غيرهما من أهل العلم: ويتعين على الحاكم ومن له ولاية تتعلق بأمور الناس أن لا يقبل الهدية ممن لم يكن معتاداً الإهداء إليه قبل ولايته، فهي في المقام تُعتبر رشوة، انتهى.
أيها المسلمون، من فضائل الأعمال الشفاعاتُ الحسنة بالتوسط فيما يترتب عليه الخير من دفع ضر أو جلب نفع ابتغاءَ وجه الله، روى البخاري عن النبي أنه قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء))[10]. ولكن من شفع شفاعة حسنة حرُم عليه قبول الهدية عن هذه الشفاعة، جاء في سنن أبي داود بسند حسن عن النبي أنه قال: ((من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هديةً عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا))[11]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتُقضَى، فيهدى إليك هديةً فتقبلها منه)[12].
جاء أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله اشتهى التفاح فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟! قال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة[13].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستجيبوا لنداء ربكم، وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه، واحذروا أسباب غضبه، تسعدوا في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الأحكام (1337) وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد (2/164)، وأبي داود في الأقضية (3580)، وابن ماجه في الأحكام (2313)، وابن الجارود (586)، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[2] أخرجه أحمد (5/279)، وهو عند ابن أبي شيبة (6/549، 587)، والطبراني في الكبير (1415)، وأبي يعلى (6715)، والطحاوي في شرح المشكل (5655)، قال المنذري في الترغيب: "رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو الخطاب لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (4/498-499): "وهو مجهول"، وذلك لأنه لم يرو عنه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1344). وله شاهد من حديث ابن عمر عزاه العجلوني في كشف الخفاء (2/186) إلى ابن منيع حسن إسناده.
[3] أخرجه الطبراني في الصغير (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (3/125): "رواته ثقات معروفون"، وحسن إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/53)، ونقل المناوي في الفيض (4/43) عن ابن حجر أنه قال: "ليس في سنده من يُنظر في أمره سوى شيخ الطبراني والحارث بن عبد الرحمن شيخ ابن أبي ذئب، وقد قواه النسائي"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1341) متعقبا المنذري: "وافقه الهيثمي، وهو من تساهلهما، فإن شيخ الطبراني وهو أحمد بن سهل الأهوازي لم يوثقه أحد، وله غرائب، ذكر بعضها الحافظ، هذا أحدها".
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/240)، وعزاه في الدر المنثور (3/81) أيضا لعبد بن حميد.
[5] أخرجه ابن جرير (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (4/454): "رجاله ثقات ولكنه مرسل"، وله شاهد من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي: كتاب الجمعة، باب ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).
[6] أخرجه أحمد (4/205) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (3/7): "رواه أحمد بإسناد فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (4/118): "فيه من لم أعرفه"، وضعف سنده الحافظ في الفتح (10/193)، وقال الألباني في الضعيفة (1236): "إسناده مسلسل بالعلل"، وذكرها.
[7] أخرجه البخاري في الأيمان (6636)، ومسلم في الإمارة (1832).
[8] معالم السنن (4/201-202).
[10] أخرجه البخاري في الزكاة (1432) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (5/261)، وأبو داود في البيوع (3541)، والروياني (1228)، والطبراني في الكبير (8/238) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3025).
[12] أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/240)، وعزاه في الدر المنثور (3/80) أيضا لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي.
[13] أخرج هذه القصة ابن سعد في الطبقات (5/377). |