أما بعد:
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يحيي المسلمون في هذه الأيام في مشارق الأرض ومغاربها ذكرى المولد النبوي الشريف[1] احتفاء بهذا النبي عليه الصلاة والسلام، الذي قدمته يد العناية الالهية رحمة للعالمين ورسولاً للخلق أجمعين.
فقد ختم الله به النبيين والمرسلين، واكتملت برسالته سائر الرسالات السماوية وعمت هدايته كل البرية إلا من أعرض ونأى بجانبه عن الحق المبين وما أذعن للحجة رغم صدوع البرهان، فلا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، سبحانه وتعالى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أساله تعالى بفضل هذا النبي الكريم أن يثبتنا على الإيمان ويحشرنا تحت لواء حبيبه الأمين يوم العرض والحساب، يوم يكون الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا.
أيها المسلمون، أيها الناس، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فالمطلع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك مدى حرصه على هداية الناس وإنقاذهم من الضلالة إلى الهداية فقد تعرض عليه الصلاة والسلام لأذى القريب وتجهم البعيد وأُدميت قدماه الشريفتان، فصبر على الأذى، ودعا إلى من آذوه بالهدى بلسان نبي رؤوف رحيم: ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)) فأسبغ عليهم الكريم حُلّة الرحمة فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107].
أيها الناس، إن مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم يشدنا إلى عظمة النبوة وشرف الرسالة التي حملها نبيه عليه الصلاة والسلام، فكوّن أمة خرجت من غياهب الضلال إلى نور الإسلام، ومن ظلمة القبيلة إلى عدل الشريعة، ومن أوهام الشرك إلى نور التوحيد، ومن الفرقة والتناحر إلى أخوة الإيمان، في ظل دولة الإسلام التى ساوت بين الشريف والوضيع، وبين الأبيض والأسود، وبين العربي والأعجمي، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13].
بهذه المبادئ العظيمة والأخلاق الكريمة التي أتمها نبيكم عليه الصلاة والسلام أنقذ عباد الأصنام من النار، وجعل من الأعراب المتحاربين لأتفه الأسباب خيرَ أمة أخرجت للناس، حملت رسالة الإسلام إلى العالمين في ثبات لا يتزعزع، وإقدام لا يتراجع، وإباء لا يقبل الضيم، وعزة لا تقبل الذل، وشموخ لا يقبل الباطل.
فقد خرجت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قادة الدنيا إلى كل فضيلة، حملوا للعالم من حولهم نور الهداية وحسن الخلق وبشاشة الإيمان، وأعادوا للإنسان كرامته المهدرة، وأخرجوا من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، نشروا الفضيلة وحاربوا الرذيلة وشدّوا الناس بأخلاقهم، فأقبل الناس على دين الله أفواجاً ورحم الله القائل:
لمحمد نور المعالي شامل لولاه ما عرف الفضائل فاضل
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وكأن الزمان قد استدار كهيئته يوم ولد وبعث عليه الصلاة والسلام، فغدت الجاهلية الحاضرة أشد وأعتى من الجاهلية الأولى، وأضحى عباد الأصنام البشرية والشهوات الدنيوية أقسى قلوباً من عباد الأصنام الحجرية، وأطل رأس الكفر ومن يسايره من المنافقين يحاربون الإسلام وأهله، وأصيبت الأمة في أخلاقها، وانكِرت العقيدة في نفوس أبنائها فصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ضُيعت الأمانة، وزاد الفجور وشربُ الخمور، وانتشرت الموبقات والمخدِرات، ونخر الفساد جميع مناحي الحياة، فعمّت الرذيلة، وتراجعت الفضيلة، وانماعت الأمة في تقليد الآخرين إلا من رحم ربي، وقليل هم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
لقد تعطلت أحكام القران بعد إلغاء الحكم الإسلامي، وهذه أكبر مصيبة أصيبت بها الأمة بعد ابتعادها عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد حذرها من الفتن وبين لنا طريق الرشاد بقوله: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ))، أي تمسكوا بها، والله تعالى يقول : لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
فهلا أخذت أمتنا اليوم بهذا الهدي الكريم وطرحت كل الشعارات الضالة التي فرّقت الأمة وأوردتها موارد الهوان، فقد هزمنا تحت كل الرايات العمّية، من قومية واشتراكية وعلمانية، ولن ننتصر إلا براية الإسلام التي استظل تحتها سلفنا الصالح الذي ربّته مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فنحن أمة لم ندخل التاريخ بأبي جهل وأبي لهب وأعراب الجاهلية، بل بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وبالرعيل الأول من صحبه الكرام وتابعيهم بإحسان.
ولم نفتح الفتوح بحرب داحس والغبراء، بل فتحناها ببدر والقادسية واليرموك ولم نحرر البلاد بالاستجداء والمؤتمرات، ولكن حررناها بحطين وعين جالوت، ولم نحكم الأمة بالقوانين الوضعية وعصبيات الجاهلية، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد وبالإسلام العظيم، ولم نبتغِ العزة من محافل الكفر الدولية، ولكن ابتغيناها من الله بجماعة من المؤمنين، ولم نبسط سلطان الأمة بدويلات الطوائف بل بسطناه بالخلافة الراشدة وبالأمة الماجدة، فاطلبي يا أمة الهادي عليه الصلاة والسلام زمام المبادرة، لإعادة مد الإسلام وعزة المسلمين، فإننا نملك ما يصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ولا تترددي إن كنت على يقين بأن الله حسبنا ونعم الوكيل، حتى لا يحال بيننا وبين العزة في الدنيا، وبيننا حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم في الآخرة، لما روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي! فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)).
أعوذ بالله أن نفتن في ديننا، أعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] الاحتفاء بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من صيغة مشروعة سوى الصيغة التي ذكرها الشيخ في الخطبة الثانية، وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه. |