أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي النجاة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، لا ريب أن من أعزِّ مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم رؤيةَ دينهم ظاهراً، وكتاب ربهم مهيمناً، وعلوَّ راية التوحيد، والفرح بنصر الله.
نصرُ الله للمؤمنين حقيقة من حقائق الوجود، وسنة باقية من سنن الله، وقد يؤخَّر النصرُ لحكمة يريدها الله، فتظهر باديَ الرأي هزيمة، وقد يُهزم الحق في معركة، ويظهر الباطل في مرحلة، وكلّها في منطق القرآن صورٌ للنصر، تخفى حكمتها على البشر، والمؤمنون غير مطالبين بنتائج، إنما هم مطالبون بالسير على نهج القرآن وأوامره، والنصر بعد ذلك من أمر الله، يصنع به ما يشاء، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17].
قد يبطئ النصر لأن بناء الأمة لم ينضج ولم يشتد ساعده، ولأن البيئة لم تتهيأ لاستقباله، ويتأخر النصر لتزيد الأمة صلتَها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله. وقد يبطئ النصر لتتجرَّد الأمة في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته. أما الباطل فمهما استعلى فهو طارئ وزاهق، ولا بد من هزيمته أمام الحق، قال تعالى: وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، ولكن حكمةَ الله اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه، وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا، وإلا لو شاء الله لم يكن هناك كفر ولا باطل، قال تعالى: ذٰلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
لا تعلم الأمة متى وكيف يتحقق النصر، فجنود الله التي ينصر بها أولياءه كثيرون، ففي غزوة بني النضير كان الرعب جندياً من جنود الله، وفي غزوة بدر كانت الملائكة والنعاس والمطر والحصى من جنود الله، وكانت الريح والعنكبوت وغير ذلك من جنود الله، وصدق الله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله قاتلتُ معه وأبليت، وكأنه يستقلّ بلاء الصحابة وجهادهم مع رسول الله ، فقال حذيفة: أنت كنت تفعلُ ذلك؟! لقد رأيتُنا مع رسول الله ليلةَ الأحزاب غزوةَ الخندق، وأخذتنا ريحٌ شديدة وقرٌّ، فقال رسول الله : ((ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة))، فسكتنا فلم يجبه أحد، ثم قال: ((ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة))، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: ((قم يا حذيفة، فأتني بخبر القوم))، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم[1].
لقد كان تردُّدُ القوم بسبب ما كانوا عليه من برد وجوع وخوف، فقد كان الحصار الذي استمرّ نحو شهر قد أوهن القوى، وأنهك الأحشاء، وكانت الظلمة في تلك الليلة مُطبقة، والريح شديدة باردة، والخوف آخذ بتلابيب القوم، إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10، 11]. في هذه الأجواء المشحونة والأحوال المدلهمة ينصر الله جنده في لحظات من حيث لم يحتسبوا، ويُرسل الله ريحاً تفرِّق جمع الأحزاب، وتغيّر موازين المعركة، وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25].
إخوة الإسلام، قد يتوهم بعض المسلمين أن الله سينصرهم ما داموا مسلمين، مهما يكن حالهم، ومهما تكن حقيقة أعمالهم، والله تعالى يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ولم يقل: ما دُمتم مؤمنين فسأنصركم وأثبِّت أقدامكم، مهما تكن أحوالكم وأوضاعكم وأعمالكم.
لقد هُزم المؤمنون وفيهم رسول الله في معركة أحد حين عصوا أمر الرسول ، وهُزِم أغلبُهم يوم حنين وفيهم رسول الله حين أعجبتهم كثرتهم وقال بعضهم: لن نُغلب اليوم من قلة، فكيف ينصر الله من لا ينصره لمجرد دعواه أنه مؤمن؟! كيف ينصر الله من يعصيه ولا يقوم بواجبه؟! يقول عمر رضي الله عنه: (إنا لا ننتصر على عدوّنا بعددٍ ولا عدة، وإنما ننتصر بطاعتنا لله ومعصيتهم له، فإن عصينا الله فقد استوينا وإياهم في المعصية، وكان لهم الفضل علينا).
عباد الله، لله تعالى سنن لا تتغيَّر يحكم بها الكون والحياة والإنسان، منها متطلبات النصر ومسببات الهزيمة. والحكمة من وراء هذه السنن أن تظهر خبايا النفوس، وتبرز معادن الناس من خلال واقع منظورٍ لا من خلال أقوال وأمنيات، فتتميّز الصفوف، وتتمحص النفوس، ويُعلم المؤمنون الصابرون فينصرهم الله، ذلك أن النصر شرف، ولن يتنزَّل على قلوب قاسية غافلة، ونفوس مريضة، وأحوال مغشوشة، في أمة تشعبت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، وتعمقت في أخوتها الخلافات، وتلوّثت بسوء الظن. ولهذا فمن أولى متطلبات النصر ترسيخ العقيدة وغرس الإيمان؛ لأن الإيمان الصادق ـ عباد الله ـ يزكي النفوس، ويطهر القلوب، فتصلح الحال، ويكتب الله النصر والتمكين للمؤمنين؛ لأن أسباب النصر داخليةٌ في القلوب والنفوس، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51].
والتاريخ ـ عباد الله ـ يحكي لنا أحوال أقوام من أهل الإيمان جياع حفاة قلة، صدقوا مع الله، وتخلصوا من حظوظ أنفسهم، فنصرهم الله ومكن لهم، قال تعالى: وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ [آل عمران:126].
من أسباب النصر الإخلاص، فالمخلص مؤيَّد من الله، مَكفيّ به سبحانه: أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وعلى قدر إخلاص المرء لربه وتجرده له يكون مدد الله وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد، إمدادُ الله بالنصر والتأييد والتوفيق والتسديد على حسب ما في القلوب من تجريد النية وصفاء الطوية، قال تعالى: لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].
من أسباب النصر ـ عباد الله ـ نصرةُ دين الله والقيام به قولاً وعملاً، اعتقاداً ودعوة، مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأُمُورِ [الحج:40، 41].
من متطلبات النصر التجمل بالصبر، هذا ما نستفيده من قول الرسول : ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً)) أخرجه أحمد[2]، وفي حديثه لابن عمه عبد الله بن عباس قال: ((وأن النصر مع الصبر))[3]، وفي ختام عدد من السور المكية أوصى الله رسوله بالصبر: وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِين [يونس:109].
من أسباب النصر الاعتماد على القوي الذي لا يغلب، يفوض إليه أمره، يثق في وعده، فلا يخاف من أعداء الله، ذلك أن النصر من عند الله، والعزة كلها من الله، ومن أراد النصر فليطلبه من الله، ومن أراد العزة فليعتز بالله، ففي غزوة حنين رأى المؤمنون أنفسهم في كثرة فقال بعضهم: لن نُغلب اليوم من قلة، وكأنما ألهتهم كثرتهم عن حقيقة القوة والنصر، فوكلهم الله إلى كثرتهم التي أعجبتهم فلم تغنِ عنهم شيئاً، لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25].
إخوة الإسلام، الدعاء أهم أسلحة النصر، لما صنع نوح السفينة لجأ إلى الله، واحتمى بحماه، ولم يركن إلى الأسباب وحدها، توجَّه إلى الله بالدعاء، لعلمه أن الدعاء يستمطر سحائب النصر، سجل لنا القرآن الكريم صِيَغ الدعاء التي دعا بها نوح ربه، وكيف أن الله استجاب له على الفور: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَاء عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوٰحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14].
ومن أسباب النصر ـ عباد الله ـ إكرام ورعاية الضعفاء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي قال له: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟؟)) أخرجه البخاري[4]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((أبغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم))[5]، وفي الحديث: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) أخرجه النسائي[6].
من أسباب النصر الثبات وكثرة ذكر الله، والاتحاد والاجتماع وعدم التنازع والاختلاف، قال تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
إعداد القوة المادية والمعنوية من أسباب النصر، قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب (1788).
[2] جزء من حديث قصة الحديبية، أخرجه أحمد (4/325) عن يزيد بن هارون، والبيهقي (9/227) عن يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وفيه عنعنة ابن إسحاق. قال ابن كثير في تفسيره (4/198): "هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد الكبائي عن ابن إسحاق بنحوه، وخالفه في أشياء، وفيه إغراب، وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه بسياقة حسنة مطوّلة بزيادات جيدة"، رواية البخاري أخرجها في الشروط (2734).
[3] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/307)، والحاكم (3/624)، والضياء في المختارة (10/23، 24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249)، وأصل الوصية عند أحمد أيضاً (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516)، وقال: "حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2896).
[5] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767)، والحاكم (2/116، 157)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[6] أخرجه النسائي في الجهاد، باب: الاستنصار بالضعيف (3178) من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو نفس الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري. |