أما بعد:
وما تزال الأوضاع في فلسطين أوضاعاً مأساوية، وكلما أراد الخطيب أن يتكلم في موضوع آخر، فإنه لا يستطيع، وكيف يتحدث في موضوع آخر وما تزال الدماء تسيل كالأنهار في شوارع فلسطين. وكل يوم يتساقط عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف الأسرى.
كنا نظن أن مذبحة صبرا وشاتيلا التي مرت بالأمة من أبشع المذابح، فجاءتنا مذبحة جنين وفعل فيها الصهاينة بمباركة من الدول الغربية ما لم يفعلوه من قبل ولا حول ولا قوة إلا بالله. لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
أيها المسلمون، يتعرض المسلمون في فلسطين هذه الأيام لحملة إبادة واسعة تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي والإسلامي وبمباركة الأمم المتحدة حيث تقوم قوات الاحتلال النازية بحملة إبادة كاملة لمخيم جنين الباسل انتقاماً لما كبده هذا المخيم لقوات الاحتلال من خسائر، حيث تفيد التقارير بأن جيش الاحتلال قد دمّر البيوت على أصحابها وسوّاها بالأرض، وقام بعملية تهجير واسعة للنساء والأطفال والسكان من أطراف المخيم حتى يتسنى له القضاء على من بداخله، وقام الجيش الصهيوني بإعدام المجاهدين الذين نَفَذَت ذخيرتهم ونَقَلوا الجثث إلى أماكن وجهات غير معلومة لإخفاء الجرائم والفظائع التي ارتكبوها، كما منعت إسرائيل كل الجمعيات الطبية من الاقتراب من المخيم، ولم تسمح لأحد من الدخول لمعرفة ما يجري من فظائع، فحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون. كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8].
لقد شوهدت عمليات ترحيل إجباري لسكان المخيم، وأفادت مصادر في صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة بأن الجيش الإسرائيلي طرد حوالي 800 امرأة وطفل لمواجهة المقاومة المسلحة في المخيم. وقالت مسؤولة في اليونيسيف إن النساء والأطفال جرى طردهم إلى مدينة جنين المحاذية للمخيم، وتُركوا دون حماية أو غذاء.
وأفاد شهود عيان أن الجيش الصهيوني يَعدم المقاتلين الذين تَنفد ذخيرتهم داخل المخيم ويَستخدم الجرّافات لدفن الشهداء الفلسطينيين في مقابر جماعية لإخفاء جريمته، هذا وقد هدم المنازل على رؤوس من يختبؤون فيها. وقال شاعد عيان: إن ثمانية من المقاومين قرروا الاستسلام للقوات بعد نفاد ذخيرتهم، فخرجوا وقد رفعوا أيديهم وأمرتهم القوات الإسرائيلية أن يخلعوا ملابسهم ففعلوا، فقام الجنود بإطلاق النار عليهم، وقتلوهم عن آخرهم.
أيها المسلمون، لقد تعرض أهل جنين في الأيام الماضية لما يمكن أن يوصف بأنه وضع مشابه لأجواء البوسنة والهرسك، عندما كان الصرب يطبقون على إحدى المدن الإسلامية هناك فيحاصرونها ويعملون على إبادة ما يستطيعون من أهلها ولكن زاد الإسرائيليون على ذلك أنهم انطلقوا يدمرون كل ما تحت أيديهم من منازل ومساجد ومتاجر وينهبون كل ما خف وزنه وغلا أو رخص ثمنه، وقد قاموا في إحدى مراحل الهجوم بجمع أكثر أهالي جنين، الذين يقدرون بعشرات الآلاف، ورحّلوا النساء والأطفال والشيوخ إلى القرى المجاورة، دون أن يسمحوا لهم بحمل أي شيء من أمتعتهم، ودون أن يعرفوا ماذا حل بأبنائهم، ثم اقتادوا من تجاوز الـ16 عاماً ولم يتجاوز الخامسة والأربعين إلى معسكرات اعتقال مجهولة وذلك بعد أن عرضتهم لإذلال وإهانات أمام أهليهم. ثم طبّقت عليهم إجراءات أمنية مهينة جداً، حيث تجبر الشباب على خلع ملابسه والانبطاح أرضاً، ثم يقوم الجنود بدهسهم بالأحذية.
وقالت امرأة فلسطينية: "دخلوا منـزل الجيران واعتقلوا 18 شاباً بينهم ابني وزوجي وأجبروهم جميعاً على خلع ملابسهم، واقتادوهم إلى الشارع عراة حيث أجبروهم على النوم على بطونهم وراحوا يضعون أختاماً على ظهورهم" وقالت: "شاهدت المئات من الشبّان العراة الذين كان الجنود يدوسون عليهم بأحذيتهم". وقالت امرأة أخرى: "إن الجنود الإسرائيليين كانوا يتكلمون من خلال مكبرات الصوت باللغة العربية ويقولون: نحن جيش أقوى منكم ولا تستطيعون مقاومتنا". وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ومن ناحية أخرى فقد أدى الحصار إلى العجز عن نقل الجرحى أو حتى دفن الموتى، وبات كثير من الأهالي يحتفظون بأبنائهم داخل منازلهم حتى يلفظوا أنفاسهم الأخيرة أمام أعينهم وعجزهم، ثم يضطرون للاحتفاظ بجثثهم لعدم التمكن من دفنهم تحت الحصار، وفي بعض الأحيان اضطر الأهالي إلى دفنهم أسفل المنازل، وهو ما قامت به الجرافات الإسرائيلية حيث أخذت تهدم البيوت على من فيها، فتدفن أهلها أمواتاً وأحياءً تحت أنقاضها.
ولكن مع كل هذا الإجرام الوحشي العلني هل فتّ هذا في عضد أهالي جنين؟ الجواب: لا. ونكتفي بذكر مثال واحد فقط لامرأة عجوز تمكن أحد المراسلين وهو يعاني من الخوف والترقب أن يجري معها حواراً سريعاً وهي سائرة إلى منـزلها غير خائفة أو وجلة، فقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ قالت: إلى الدار، فقال لها: ألا تخافين؟ قالت: "نحن لا نخاف، لو قتلونا فسنذهب إلى الجنة ونصير شهداء، فقال لها: إن هناك جنوداً يمكن أن يقتلوكِ وأولادكِ، فقالت له في إيمان قلً مثيله: "نحن نخاف على أولادنا، لكن لو ماتوا فهم شهداء عند الله، وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار".
إذا كان هذا جواب امرأة من جنين فما تظنون جواب رجالها؟
وستبقى جنين رمزاً لبطولات وتضحيات، ومن شأن هذه التضحيات أن تُحَّطم حلم كثير من القادة بالتبرك بمصافحة شارون وبيريز من خلال صُلْح وسِلْم مع دولة بني صهيون، وما علم هؤلاء أن جنين ستلد ألف جنين جديدة بإذن الله الواحد الأحد.
أيها المسلمون، إن تاريخ جنين تاريخ قديم، فجنين تقع في الجزء الشمالي لفلسطين، وتعتبر جنين مصدر الخبز الرئيسي لفلسطين ولذلك سميت "بسلة الخبز الفلسطيني".
بنيت مدينة جنين في العهد الكنعاني وهي بذلك واحدة من أقدم التجمعات السكانية في العالم كأريحا والقدس وعكا ونابلس ودمشق، ولقد واجهت جنين عدداً من الكوارث قبل مئات السنين منها مرض الطاعون الذي قتل جميع أبنائها عدا امرأة واحدة فرت خارج المدينة، ثم الهزة الأرضية التي أصابتها ودمرتها بشكل تام، وبعد ذلك أحرقها نابليون عند احتلالها عام 1799م. سُميت جنين بهذا الاسم بسبب الجنائن التي تحيط بها، فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي وعُرفت بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
جنين لها تاريخ قديم مع اليهود، فقد خاضت بمدنها وقراها معركة الدفاع عن الوجود ضد المنظمات الصهيونية المسلحة عام 48م حاول اليهود الاستيلاء على مدينة جنين حيث تم تطويقها وكان عدد الصهاينة4000 مقاتل فاستولوا على معظم أحياء المدينة، وتحصن المجاهدون في عمارة الشرطة في المدخل الغربي حتى وصلت نجدة للمحاصرين قوامها500 جندي عراقي بقيادة عمر علي وحوالي100 مجاهد فلسطيني من القرى المجاورة، وبعد معارك دامية في خارج البلدة وفي شوارعها وأزقتها اندحر الصهاينة وتطهرت المدينة منهم في 4 حزيران 1948م وبقيت تحت الحكم الأردني حتى احتلالها عام 67م.
فإسرائيل تعرف بسالة رجال جنين منذ القديم، ولهم معهم صولات وجولات، وقد قالت صحيفة إسرائيلية: "هذا ببساطة أمر لا يصدق، كلما استطعنا التقدم لعشرة أمتار يفجرون ضدنا عبوة ناسفة، كل المنطقة مفخخة، وكل لحظة يفجرون حولنا أشياء". وقال ضابط إسرائيلي للصحيفة: "الفلسطينيين فجروا علينا براميل مليئة بالمتفجرات فخخوا السيارات الشاحنات المنازل الشرفات وأعمدة الكهرباء ووضعوا عبوات أخرى على الأشجار وتحت أغطية المجاري، أطلقوا النار على القوات من كل اتجاه، والمعارك جرت من منـزل إلى منـزل" وفي نفس المضمار قالت صحيفة أخرى وتحت عنوان: "في كل ثقب يختفي مخرّب أو عُبوّة". لقد أبلى رجال جنين بلاءً حسناً فتحصنوا في المنازل وأطلقوا نيران القناصة باتجاه الجنود وفجروا مئات العبوات الناسفة.
أيها المسلمون، ربما يتساءل البعض لماذا تتعرض هذه البلدة على وجه الخصوص لهذه الحملة الشنعاء من التنكيل والإبادة ومحاولة إذلالها؟
الإجابة: أولاً: لأنها المصنع الأول للرجال الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية. ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فجنين في أعين اليهود هي وكر الاستشهاديين كما صرح غير واحد منهم قال جيسين مستشار شارون: "إن مخيم جنين ليس مخيماً للاجئين بل مصنعاً لإنتاج القنابل البشرية" ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يصر الإسرائيليون على جنين بالذات ولماذا صمدت جنين كل هذه الفترة ونفهم الأمر أكثر من خلال كلام اليهود أنفُسُهم حيث إن الفشل العسكري الذي واجهته القوات الإسرائيلية في مدينة جنين سيظل علامة فارقة في التاريخ العسكري الإسرائيلي، فقد أسقطت هذه المقاومة الباسلة هيبة الجيش اليهودي تماماً وأثبتت أن المستوى التدريبي للجنود والقدرة القتالية غير متوفرة تماماً، لو قارنا كيف دخلت إسرائيل هذه المدينة في مقابل ما يملك السكان، دخلت إسرائيل جنين بـ 30 ألف جندي ونحو ألفي دبابة.
وكان من المفترض أن هذه البسالة العجيبة من أهالي جنين أن يشجع الكثير من العرب ويزيل من قلوبهم الكثير من الخوف من القوة العسكرية الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يحدث.
ثانياً: دورها الكبير في عمليات المقاومة الأخرى، فلم يقتصر دور أبطال جنين على العمليات الاستشهادية بل تخللتها ما بين اشتباك مسلح إلى تفجير عبوات ناسفة إلى زرع الأرض بالألغام إلى عرقلةٍ لحركة سير الدبابات إلى تصنيع قذائف الهاون، إلى فتية يعرف الواحد منهم استخدام كافة أنواع الأسلحة.
ثالثاً: كونها مثال الصمود و الثبات: لقد أصبحت جنين رمز الصمود وإذلال العدو الصهيوني في وقت عز فيه من يقف في وجه الباطل ويقاتل حتى آخر رمق وهذه شهادة العدو قبل الصديق: أعلنت القوات الصهيونية عن ما أسمته إكمال السيطرة واحتلال مخيم جنين وذلك بعد نفاد ذخيرة المجاهدين والمقاومين المحاصرين ولكن جنرالاتها الإرهابيين الذين يقودون المجازر اعترفوا بالبسالة الفائقة التي واجهتها قواتهم في مخيم جنين.
واعترف الجنرال الصهيوني إسحاق إيتان قائد المجازر الصهيونية في تصريحات للصحافة العالمية من مقر قيادته خارج جنين بالمقاومة الشرسة التي واجهها جنوده في جنين ومخيمها وقال: "نحن نواجه رجالاً يريدون الموت بشرف، على الحياة في ذل الأسر" وأضاف كعسكري محترف: "هذه أول مرة في تاريخ حروبنا مع العرب نواجه مثل هذه المقاومة الباسلة" فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
لقد أعطى صمود جنين درساً كبيراً لا يمكن تجاوزه وهو أن بضع عشرات ببنادق يمكن أن يواجهوا أعتى الجيوش ويوقفوها عند حدها إذا توافرت النية الصحيحة والإخلاص لله رب العالمين. لقد قدم سكان جنين ما يجب عليهم فعله، والله الذي لا إله إلا هو لقد أقاموا الحجة على الأمة كافة في تخاذلها وجبنها وخورها. لقد حطم أهل جنين معنويات اليهود وكسروا الغرور الإسرائيلي. كانت جنين مقبرة للقوات الإسرائيلية منذ زمن بسبب الأزقة الضيقة الملتوية والبنايات المتلاصقة المكتظة بالسكان، كانت مخبأ مثالياً للمقاومين والقوات التي تتسلل سيراً على الأقدام لصعوبة توغل العربات المدرعة التي تواجه خطر الاصطياد.
كان أطفال المخيمات يرددون الأناشيد ويرفعون شعارات المقاومة قبل أن يتقنوا مبادئ الكلام، كنتَ تَرى في جنين الصور الشخصية لقادة حماس الذين تم اغتيالهم تعلق على الجدران جنباً إلى جنب مع صور الشهداء والاستشهاديين الذين فجروا أنفسهم. وبغض النظر عن جواز هذا الأمر من عدمه، لكنه أغاظ اليهود أيما غيظ، ففعلوا ما فعلوا عليهم من الله الغضب واللعنة.
أيها المسلمون، استطاع شباب جنين تفجير دبابة ميركافا بلغم فجن جنون اليهود وحار العالم من ذلك، وتكرر الأمر نفسه مرة أخرى، مما دمر سمعة الدبابة ووقع الإسرائيليون في حيرة عندما تم قتل سبعة جنود في الثالث من مارس، وقد أصابتهم رصاصات أطلقها قناص كان يستخدم بندقية قديمة يعود تاريخ تصنيعها للحرب العالمية الثانية وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ [الأنفال:17]. فأربك هذا وحدات الجيش النظامي الإسرائيلي، فوقع نحو 400 منهم على وثيقة يرفضون فيها العمل في المناطق المحتلة مدعين أن الاحتلال مفسدة لبلدهم.
وبعدها قتل ثلاثة عشر جندياً مما أثار اعتراضات واسعة ضد استراتيجية شارون التي تستهدف استخدام القوة العسكرية لتعزيز قبضة إسرائيل على معظم مناطق الضفة الغربية وتحطيم مؤسسات الدولة الفلسطينية. لكن هذا المجرم استمر في سياسته الرعناء، وحصلت بعدها مذبحة جنين وما تزال مستمرة ولله الأمر من قبل ومن بعد فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
بارك الله ..
|