ثم أما بعد: فقد مررت ذات يوم ـ معاشر المؤمنين ـ على مقهى به شباب يلهون بأنواع اللعب، وأمامهم طبق فضائي يشاهدون فيه قصف الصليبيين على إخوانهم المؤمنين، وهم يدخنون ويلعبون النرد والورق، وينظرون إلى ذلك القصف لاهين عابثين لاعبين، فتذكرت ـ معاشر المؤمنين ـ قصةً في كتاب الله عز وجل، جعل الله عز وجل فيها مثلاً بالغًا لمن يرى آيات الله عز وجل ثم يعرض عنها، فأردت لنفسي وإخواني أن نتدارس هذه القصة، وأن نتعاهد قلوبنا حتى لا يصيبنا ما أصاب القوم من قبلنا.
يقول عز وجل في محكم التنزيل: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:72، 73]، أخبر جل وعلا عن بني إسرائيل لما قتلوا نفسًا فادارؤوا فيها أي اختلفوا فيها، كل فريق اتهم الآخر بأنه هو الفاعل، وأنه هو القاتل، وكان الله عز وجل قد أمرهم أن يذبحوا بقرة، فأمرهم ليريهم آيةً عظمى من آياته جل وعلا أن يضربوا القتيل بجزء من أجزاء البقرة المذبوحة المقتولة، فأحياه الله عز وجل وأنطقه حتى أخبر عمن قتله، فأراهم الله عز وجل آية من آياته، آية إحياء الموتى وكيف أنه جل وعلا على كل شيء قدير، فلما رأوا تلك الآية ـ معاشر المؤمنين ـ ماذا كان موقفهم؟ وماذا كانت النتيجة؟ يقول سبحانه: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ [البقرة:74]، يقول ابن جرير رحمه الله: "أي قست قلوبكم بعد رؤية ما يوجب لينها"، بعد رؤية ما يوجب لين القلب، عبدٌ ميت مقتول يضرب ببقرة مقتولة أيضًا أو مذبوحة فإذا به يبعث بعد موته وينطق ويخبر عمن قتله، تلك آية توجب لين القلوب، وتوجب خوفها وعودتها إلى ربها، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ.
وبين جل وعلا درجة القسوة التي بلغتها قلوب بني إسرائيل: فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأنْهَـٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74]، يقول الطبري رحمه الله: "فزكى الله الحجارة"، يعني قلوب بني إسرائيل أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، و(أو) هنا بمعنى (بل)، أي هي كالحجارة، بل أشد قسوة من الحجارة، وزكى الله عز وجل بعدها الحجارة، فالحجارة منها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله، كما قال جل وعلا: لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [الحشر:21]، يضرب ربنا عز وجل لنا الأمثال ـ معاشر المؤمنين ـ علنا نتفكر ونتدبر.
والشاهد من هذه القصة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن الله لا يري عباده آية أو أمرًا يوجب لين القلب، ويوجب الرجوع إليه، ثم هم يعرضون ولا تلين قلوبهم إلا ختم عليها، وكان ذلك سببًا عظيمًا في قسوتها.
وهذا ما يحدث لنا معاشر المؤمنين، نحن معاشر المسلمين في كل مكان، هذا ما يحدث لأمتنا، كم من مصيبة تنزل بالأمة، وكم من كارثة تحل حول قرانا وديارنا، ومع ذلك لا يتعظ الناس، وكأن عندهم من الله عهدا أو ميثاقًا أنه لا يعذبهم، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، فمنَّ الله عز وجل على قريش آنذاك بأنه جعل لهم أمنًا في ديارهم، يأمنون وغيرهم من الناس في حالة من الفزع، عبر عنها ربنا بقوله: وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، يُتَخطفون بالغارات وبالغزو والنهب والسلب والقتل، وهم آمنون، فلم يشكروا نعم الله عز وجل عليهم، كفروا بنعم الله، فأذاقهم الله عز وجل وأحل بهم دار البوار يومَ بدر، فعادوا مهزومين أسرى، قد سلبهم الله عز وجل تلك النعمة العظمى.
فهذه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ سنة كونية من سنن الله عز وجل لا تتخلف أبدًا، وأعجب من إخواننا المسلمين الذين يتابعون أخبار إخوانهم في القنوات الفضائية، وهم ينظرون إلى القصف الصليبي الذي يفتك بالمسلمين، ويقتل أطفالهم ونساءهم، ويدمر بيوتهم الخربة، وهم مع ذلك في لهوٍ عظيم، فبين مدخنٍ ومختلط مع غير المحارم، بل ومن يتعاهد هذه المناظر بالذهاب إلى قنوات أخرى يشاهد العري ويسمع الغناء ثم يعود بعد ذلك ويتابع الأخبار.
إن ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ من أعظم علامات قسوة القلوب، ومن علامات قسوة القلوب ومظاهرها غير التي نشاهدها مع من يتقلب في المعاصي والمنكرات، وهو يشاهد النقم والويلات تنزل على إخوانه المسلمين، حال الناس المنغمسين في الدنيا ولا ينظرون إلى ما يحدث بإخوانهم ولا ما يقع عليهم من المصائب والنكبات، فلم تمنع هذه الأحداث أهل الربا من جرمهم العظيم، ولم تحملهم على التوبة إلى الله، فما زالوا يرابون، وما زالوا يقدمون العروض الربوية، وما زالوا يغرون الناس بالوقوع في الربا، وهذا من علامات قسوة القلوب، فإن الرجل إذا نظر إلى ما فعل الله بأهل الربا وماذا حل بأعظم بنايات الربا في العالم لا بد وأن يتعظ وأن يخاف وأن يشفق على نفسه، وأن يتوب إلى الله توبة نصوحًا.
وأيضًا معاشر المؤمنين، من هو منغمس في الشهوات والمحرمات لم يردعه ما يرى من حروب ونكبات وأناس يشردون في كل لحظة وآن، وهو مع ذلك منغمس في لهوه وشهواته، إن ذلك لمن قسوة القلوب، والله عز وجل زكى بعض الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ [البقرة:74]، وهذا ليس من باب المجاز معاشر المؤمنين، بل هو حقيقة كما أخبر ربنا جل وعلا، فالجمادات تسبح وتخشى الله، وتخافه بل تحن إلى سماع الوعظ، وتحن إلى سماع الذكر، كما حصل مع الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فلما تركه إلى المنبر حن وبكى على مرأى من جماهير الصحابة، ويقول : ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث))، قبل أن يبعث ، كان هناك حجر بمكة كلما مر عليه النبي يسلم عليه بلفظ النبوة، قال: ((إني لأعرفه الآن))، فهذه الحجارة وهذه المخلوقات قد يكون فيها من اللين ومن الخشوع والخضوع لرب العالمين ما لا يكون في قلب البشر ممن أنعم الله عز وجل عليهم بالإيمان والعقل.
وأيضًا معاشر المؤمنين، من مظاهر قسوة القلوب توسع كثير من الناس في الدنيا، وإصرارهم على التوسع في الملذات، وهم يرون الملايين من المسلمين مشردين لا يجدون ما يأكلون، ولا يجدون ما يسكنون، والنبي أوصى أصحابه وأرشدهم قائلا: ((انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))، فانظر إلى من هو دونك فهو أحرى بك أن تدرك نعم الباري عز وجل عليك فتشكره عليها.
فاتقوا الله عز وجل معاشر المؤمنين، اتقوا الله عز وجل حق التقوى، واعلموا أن الله عز وجل يبتلي عباده بالخوف والجوع ونقص من الأنفس والثمرات، ويبتليهم بالفتن والحروب والمعارك حتى يتعظ غيرهم ممن أنعم الله عز وجل عليه بخلاف ذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ألا يهلكنا ولا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|