أما بعد:
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلي عباده بأنواع من البلاء والمحن أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، فالله تعالى يبتلي بالخير وبالشر، يبتلي بالحسنة وبالسيئة كما قال تعالى: وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35].
ومن فائدة البلاء أن يتبين الصابر من الساخط، ويتميز الشاكر من الكافر لنعمة ربه، والنتيجة لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
ألا وإن من أعظم الابتلاء أن ينعم الله تعالى على عبده بنعمة الأمن ورغد العيش ثم لا يقوم بشكر هاتين النعمتين، فالأمن والرخاء من أجلّ النعم بعد الإيمان، ألم يقل الله تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، ألم يقل سبحانه مذكراً ومحذراً أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]، ومن ابتلاه الله تعالى بتوفر الأمن فليحمد الله على هذه النعمة وليتذكر حال الخائفين الوجلين من إخوانه المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ممن أحاطت بهم الكروب وتسلط عليهم أعداء الدين، وقل الناصر لهم والمعين، وكثر الناعق لهم والمخذل المبين، ومن ابتلاه الله تعالى بالرخاء ورغد العيش فليتذكر حال إخوانه الجائعين ممن جاعت بطونهم وتقرحت أشداقهم، وباتوا الليالي جوعى متضورين، نقل الإمام الذهبي عن عطاء بن أبي رباح قال حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه، يده على خده، سائلة دموعه، فقلت يا أمير المؤمنين: ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فرحمت نفسي فبكيت.
عباد الله، وبعد هذا التذكر والتصور يأتي دور العمل والجد، فالشعور المجرد الخالي عن العمل لا يكفي وحده، إن من شكر الله تعالى على نعمته القيام بحق هذه النعمة ومد يد العون إلى كل مسلم منكوب، في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))، وفي رواية لمسلم: ((المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)) وقال النووي رحمه الله تعالى: "هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد".
نخلص من هذا إلى أن المسلم الحق يشعر بمعاناة أخيه المسلم حيثما كان، بل ويتألم لمصيبته وكأن المصيبة واقعة عليه هو، وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)) وفي سنن أبي داود: ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه)). فهل استشعرنا هذه المعاني أيها المسلمون؟
إن الله تعالى قد أمرنا أمراً جازماً أن نتولى المسلمين حيثما كانوا إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [المائدة:55، 56]، وقال سبحانه: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
عباد الله، الولاء للمؤمنين له لوازم منها محبتهم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) أخرجه الشيخان، ومنها التألم لمصائبهم وآلامهم، وهو مطلب لا يعذر فيه أحد، فالمشاعر القلبية أمر يملكه كل الناس، ولا يعجز عنه أضعفهم، يملك المسلم أن يتألم لآلام إخوانه المسلمين، وأن يتفاعل مع مصائبهم وإن عجز عن أن يقوم بنصرتهم بماله أو نفسه. ولكنه تألم مصحوب بفعل من دعم ودعاء وشرح لحالهم ومصيبتهم.
ومن حق المسلم على أخيه التأييد والإعانة، فللمسلم حق موالاته وإعانته وتأييده عند حاجته حسب القدرة باليد والسلاح أو بالدعاء والمقال، والدعاء مشروع كل وقت فلا يتقيد بقنوت النازلة أو دعاء الخطيب في الجمعة، بل يوطن المسلم نفسه على الدعاء لإخوانه في كل وقت وحال لا سيما عند اشتداد المحن وانتهاك حرمات المسلمين، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد انتصر للمسلمين وأيدهم بيده ولسانه وماله ودعائه، هاهو صلى الله عليه وسلم ينتصر لخزاعة التي دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فحينما أغارت عليهم بنو بكر مع قريش، وقتلت منهم من قتلت، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجـدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نصرت إن لم أنصر بني كعب))، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله وذلك في سنة ثمان من الهجرة، ونصر صلى الله عليه وسلم أصحابه بالدعاء، ونعم السلاح هو، فمن ذلك ما أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من بني سليم. قال: بعث سبعين من القراء إلى أناس من المشركين فعرض لهم هؤلاء فقتلوهم، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فما رأيته وجد على أحد ما وجد عليهم.
وفي لفظ :قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً حين قتل القراء فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزنا قط أشد منه. وأخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال: ((إذا قال سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف)) يجهر بذلك.
وبعد أيها المسلمون، يا من تنعمون بنعمة الأمن ورغد العيش وسعة البال وانتظام الحال ألم تروا وتسمعوا ما يتعرض له إخواننا في فلسطين من البطش والتنكيل على يد أخس خلق الله إخوان القردة والخنازير، كم يستغيثون ولا مغيث، كم يستنصرون ولا ناصر، ضاقت بهم الحال، واشتد بهم الكرب، فهل من نصرة لإخواننا أيها المسلمون؟ وهل قمنا حقاً بشكر الله تعالى على نعمة الأمن والرخاء؟ اللهم يا كاشف الهم ويا منفس الكرب، ويا رافع الضر، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، اكشف الضر عن إخواننا في فلسطين، اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم وتول أمرهم واحفظهم واحقن دماءهم يا رب العالمين.
|